القراءة بالمقلوب وعمى الحروف !
بقلم: علي جبار عطية
اعتدتُ على أن أقرأ الجريدة ابتداءً من الصفحة الأخيرة ثمَّ أقفز إلى الصفحات الرياضية والفنية ثمَّ أعود إلى الصفحتين الأولى والثانية في نهاية المطاف!
سلوك يبدو غريباً في عصر العولمة والثورة الاتصالية والرقمية الكبرى لكنَّه لم يأتِ اعتباطاً فكاتب السطور قارىء قديم من تربية عصر حكم فيه الدكتاتور بالنار والحديد ،وكانت الصحف فيه خاضعةً للإعلام الحكومي المركزي فلا يطير طير إلا بإذن الحاكم، فليس من الغرابة أن يضيق المرء ذرعاً بأخبار الصفحة الأولى وصفحة المحليات وصور القائد، وهو يبتسم على جراحنا على مدى ٣٥ سنة!
ولك أن تقدِّر محنة القارىء، وهو يطالع أخباراً تُستهل بجمل من قبيل : قال القائد، ووجَّه القائد، ومكرمة للقائد، وافتتاح جدارية للقائد… وهلمَّ جراً!
لكنَّ الصفحة الأخيرة تكون مختلفة نوعاً ما فهي منوعة، وفيها مادة مقروءة نسبياً يجد فيها طالب التسلية بعض ما يبغي !
هل نفعل ذلك مع المجلات والكتب؟
سؤالٌ وجيه ؛ فلعلَّ سلوك قراءة الجريدة من الخلف له آثار جانبية على الشخص الذي يعتاد عليه يشمل المجلة والكتاب أيضاً لكن بحدود فتجده يتصفح آخر الكتاب بذريعة الاطلاع على الفهرست، أو معرفة طبيعة النهاية خاصةً في الروايات غير الشائقة للتواصل أو القطع معها بخاصة حين تتراكم الكتب، ويصبح من المتعذر أن تستمر في التحدي فتقرأ الكتاب من الجلد إلى الجلد !
يحدث هذا حتى في الكتب السياسية والفكرية فضلاً عن الكتب والمؤلفات الأدبية، وكذلك انتقلت عدوى هذا السلوك ليشمل متابعة الأعمال الدرامية التي تبث على قناة اليوتيوب من أفلام ومسلسلات وبرامج!
لكنَّ هذه الحالة قد تكون لها علاقة بمرض يُسمى بـ(عسر القراءة والكتابة والحساب) أو (عمى الحروف) أو (الديسليكسيا) وقد قرأتُ مؤخراً أنَّ فتاة صربية عمرها ٢٨ سنة تُدعى بوجانا دانيلوفيك حيرت الأطباء بحالتها الغريبة فهي لا تتمكن من فهم أي شيء مكتوب إلا إذا قلبته رأساً على عقب لتقرأه من الأسفل إلى أعلى.
لم يؤثر هذا المرض على بوجانا فهي تقرأ الكلمات بالمقلوب بيسر وسهولة كما يقرأ غيرها ذلك بطريقة سليمة ، وقد تفوقت في دراستها، وتخرجت في كلية الاقتصاد بدرجة امتياز.
أول من استخدم مصطلح (الديسليكسيا) هو عالم الأعصاب الفرنسي رودلف برلين عام ١٨٧٢، وحسب المعهد القومي الأمريكي للصحة فهذا المرض يُعد نتاجاً لتعثر عمليات الدماغ على الترميز، وتحويل الصورة المشاهدة بالعين المجردة من صورة للحرف أو للرقم إلى الرمز اللفظي أو الكتابي المناسب.
يُعبر العلماء عن هذا المرض بداء العبقرية، وقد أصيبت به شخصيات عظيمة مثل ليوناردو دافنشي، وتوماس أديسون وغيرهما.
غير أنَّ المتحصل من كل هذا هو أهمية القراءة سواء تحقق ذلك بالقراءة من اليمين إلى اليسار، أو بالعكس، أو من الأسفل إلى الأعلى طالما تشكل القراءة الجادة إضافة معرفية حقيقية وإحساساً جديداً بالحياة ، وكما يقول الكاتب عباس محمود العقاد : (القراءة حيوات) .
يا ترى هل نلتمس بذلك العذر لمن يُفضل قراءة الواقع بالمقلوب ليستوعب ما يجري ؟