“همسات الفجر الجديد… “بألوان سناء هيشري

كتبت | ضحى مجدي
وسط عالمٍ مشحونٍ بالتصدّعات، حيث تكثر الأصوات ولا يُسمع صوت، تخرج اللوحة ككائنٍ يصرخ دون أن يفتح فمه. “صرخة صامتة بلونٍ كثيف”، هي ليست مجرّد لوحة لوجهٍ أنثوي يطلّ من خلف الشقوق والطبقات، بل هي وثيقة بصرية تُقاوم المحو، رسمتها الاديبة و الفنانة التشكيلية البلجيكية من أصول تونسية سناء هيشري، بتقنية لا تشبه سواها.
تبدو العينان شاخصتين نحو البعيد، وكأنهما تتبعان شيئًا لا يُرى، شيئًا تشكّل خلف انسكاب الألوان. تسيل الخطوط، تندلق الألوان، تتراكم الطبقات الزيتية والأكريلية دون حساب… هنا، لا مكان للبخل الفني، بل للبذخ الروحي. فالفنانة، كما اعتادت، لا ترسم بالألوان فحسب، بل ترميها، تُلقي بها، تُفجّرها فوق السطح، كما لو كانت ترمي قلبها.
ولأن ما يفيض لا يموت، فقد أرادت سناء أن يكون كل فائضٍ عن الحدّ في اللوحة دليلاً على حياةٍ مضاعفة. في عالمٍ بات يقتصد في كل شيء، حتى في المشاعر، تأتي لوحتها مُفرطةً في صدقها، في كثافتها، في ألوانها التي لا تعتذر عن جرأتها، ولا تتراجع أمام من يراها “أكثر مما يجب”.
لكن هذه “الفوضى الخلّاقة”، كما تصفها الاستاذة سناء ، ليست عبثًا. بل هي نظامٌ داخليّ لا يُدركه إلّا من يحدّق طويلًا. فالشقوق المتناثرة ليست تشوّهًا، بل أبواب صغيرة تفتح على ما هو أعمق من الشكل: على ذاكرة إنسان، على هشاشة أنثى قوية، على عالمٍ يتشظى لكنه لا يسقط.
إنها لوحة تشبه وجه الأرض اليوم، محفوفة بالتشققات، مجروحة ولكن حيّة، مشرّعة العيون رغم الدخان. ولأن الفنانة ترفض أن تُقدّم فنًا ناعمًا يعزل المتلقي عن الواقع، فهي تُفضّل المواجهة: ضربات، لطخات، نزيفٌ لوني، وتكوينات غير مُغلقة، تُربك العين قبل أن تُهذّبها.
ولعلّ ما يُثير الانتباه أيضًا هو هذه التقنية المستفزّة التي تعتمدها هيشري، والتي طالما كانت محلّ تساؤل: رمي اللون بكثافة، استهلاك كميات كبيرة من الطلاء، وكأنها تُغرق القماش بما لا يستطيع حمله. لكنها لا تفعل ذلك عبثًا، بل لتمنح اللوحة ثقلًا وجوديًا، وطبقات من الصدق، لا تُمسح ولا تُنسى.
هذه التقنية لا تُعلَّم بسهولة، ولا يتقنها إلا من يعتبر أن اللوحة ليست مجرّد سطحٍ للعرض، بل حقلٌ للصراع، وميدان للبوح، وساحة لمعركة داخلية يخرج منها الجمال منتصرًا.
وفي خلفية هذا المشهد، تلوح أسئلة كبرى لا تُقال: ما الذي نفعله في زمنٍ تتراكم فيه الانهيارات؟ هل يكفي الفن ليُنقذ ما تبقّى؟ هل يستطيع وجهٌ أنثوي متشظٍ أن يُمثّلنا جميعًا؟ لعلّ الإجابة لا تُكتب، بل تُشاهد، وتُحسّ، في لوحةٍ مثل هذه.
في “صرخة صامتة بلونٍ كثيف”، لا تصرخ سناء هيشري من أجل الألم، بل من أجل البقاء. إنها لا تبحث عن تعاطف، بل عن اعترافٍ بجمالٍ هشّ لكنه شجاع، بملامح مُمزقة لكنها تنظر بثبات، بألوانٍ تتساقط كثيفة لكنها لا تغرق اللوحة، بل تُنقذها من الصمت.
سناء هيشري اديبة ، باحثة و فنانة تشكيلية بلجيكيّة من اصول تونسيّة درست في الاكاديمية الملكية للفنون الجميلة ببروكسل.

عضوة في اتحاد الفنانين التشكيلين التونسيين
مسيرة عقدين في مجال الفن التشكيلي و التدريس لقواعد و تقنيات الفنون الجميلة أقامت معارض فنية و فعاليات و دورات تدريبية و ورشات بين بروكسال و دبي و تونس.
كما تحصّلت علي العديد من الجوائز تقدير و تكريم لمساهمتها في تطوّر الفن التشكيلي في البلدان العربية
اضافة إلي مشاركتها في لجان التقييم للمسابقات التشكيليّة …

و قد صدر لها كتاب جديد عن دار نقوش عربية للنشر تحت عنوان: نضال من الوان”
و كان توقيع كتابها بمدينة الثقافة تونس
و قد وضعت فنّها التشكيلي لخدمة قضيّة اجتماعية و ذلك من خلال تبرّعها بجميع مبيعات كتابها لديار الايتام





