تاريخ

محمد صبحي، ضمير الوطن والفنان المثقف

د. شيرين النوساني|أكاديمية مصرية
إذا كان بعض المبدعين يظل أثرهم مرتبطا بمن عرفهم عن قرب، فإن محمد صبحي يختلف؛ إذ لم نحتج أن نلتقيه وجها لوجه كي نشعر أننا نعرفه. فقد اقتحم عالمنا من أوسع الأبواب حين دخل بيوتنا عبر شاشة التلفاز، وجلس بيننا على مقعد المسرح، حتى صار جليسا في كل بيت، رفيقا في كل مجلس، يتربع على عرشه في وجدان كل أسرة مصرية، شخصا مألوفا وصوتا صادقا يحدثنا كما لو كان واحدا منا. وهذه الألفة النادرة وهذا القرب الإنساني يجعلان الحديث عنه مختلفا، إذ يبدو وكأننا لا نكتب عن نجم بعيد يسطع في سماء الفن، بل عن قريب عزيز شكل جزءا من ذاكرتنا وشاركنا أحلامنا.


في ذاكرة الفن المصري، يظل اسم صبحي محفورا بأحرف من نور كأحد أعمدة المسرح العربي وصوتا ثقافيا نقيا لم يعرف سوى الصدق. لم يكن صبحي مجرد ممثل يبرع في تقمص الأدوار، بل كان مشروعا إبداعيا متكاملا حمل هموم الوطن وصاغها في أعمال فنية تمزج بين البسمة والفكرة، وتجمع بين المتعة والرسالة.
منذ انطلاقته الأولى على خشبة المسرح، استرعى صبحي الأنظار بمقدرته الفذة على المزج بين عفوية الأداء وعمق الرؤية، فكان حضوره يفرض احتراما قبل أن تثير شخصيته الفنية إعجابا.
وفي أعمال خالدة مثل انتهى الدرس يا غبي، تخاريف، وبالعربي الفصيح، قدم لونا كوميديا مختلفا، سمه إن شئت باللون الذكي، فهو لا يبحث عن الضحك السهل العابر، بل يفتح بابا للتأمل والتساؤل حول الواقع السياسي والاجتماعي. ومع وجهة نظر، كارمن، والهمجي، أرسى صبحي مبدأه الأثير في أن المسرح مرآة حقيقية للناس، تعكس همومهم وتفضح التناقضات، فتناصر الوعي وتنتصر له.
أما في الدراما التلفزيونية، فقد حمل صبحي رسالة متفردة من خلال مسلسل يوميات ونيس، ذلك العمل الذي تحول إلى أيقونة تربوية وثقافية ناقشت قضايا الأسرة المعاصرة وموضوعات الهوية والانتماء، وظلت راسخة في وجدان أجيال كاملة متعاقبة. كانت شخصية ونيس امتدادا لشخصية محمد صبحي الحقيقية، التي تؤمن أن الفن رسالة سامية ووسيلة لتربية الذائقة وصناعة الوعي.
لكن صبحي لم يتوقف عند حدود أداء الأدوار؛ بل ارتقى إلى دور المثقف الحقيقي الملتزم بقضايا وهموم وطنه، فكان صوته مدويا في كل ما يخص الهوية المصرية والعربية، رافضا الانجرار وراء الابتذال، ومؤمنا أن الفن لا ينفصل عن التربية وإرساء القيم. فأطلق مشروعات ثقافية ومبادرات إنسانية، داعيا إلى أن يعود المسرح منبرا للفكر والوعي، وأن تبقى الثقافة درعا وحصنا للأمة.
لقد صار محمد صبحي، عبر مسيرته الطويلة، بمثابة ذاكرة وطنية حية في وجدان المصريين؛ نراه في ملامح الأب المربي المعلم، وفي صورة الفنان الملتزم، وفي صوته الذي يوقظ فينا الإحساس بالانتماء والمسؤولية تجاه أوطاننا. ومن خلال مشروعه الفني الثقافي، تعلمت أجيال أن الفن ليس زينة للحياة أو ترفا، بل هو نبضها وروحها العميقة، وأن المسرح ليس خشبة عابرة، بل وطن صغير وفضاء واسع تتجسد عليه أحلام الكبار وتتوارثه الأجيال ويحمل آمال الصغار.
وهكذا يبقى محمد صبحي في قلوب محبيه رمزا للفنان الذي لم يهادن على رسالته، فكان إبداعه امتدادا لوجدانه، وصدقه الفني انعكاسا لنبله الإنساني، ليستمر حضوره حيّا في الوجدان الجمعي، كأيقونة تجمع بين بهجة الفن وسمو الفكر، وبين جمال التعبير وقدسية الرسالة.
محمد صبحي: “الفن ليس للترف ولا للهروب من الواقع، بل هو سلاح لمواجهة القبح ورسالة لتجميل الحياة.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى