
د. نجاة الجشعمي| العراق
في العراق، لم يعد الانهيار حدثًا، بل صار نمطًا.كل قطاعٍ يُدار بالخراب، وكل مؤسسةٍ تُنهب من الداخل، وكل حقٍّ يُحوّل إلى امتيازٍ يُمنح لمن يملك النفوذ.
من التعليم إلى الزراعة، من السكن إلى النظافة، من الدراسات العليا إلى رواتب النواب… كل شيءٍ صار يُدار بمنطق “من يستحق أقل، يحصل أقل”.
التعليم… رفاهية لمن يملك الواسطة
الجامعات العراقية، التي كانت يومًا منارات علم، تحوّلت إلى مؤسساتٍ تُدار بالبيروقراطية والتمييز.
الدراسات العليا لم تعد تُمنح حسب الكفاءة، بل حسب العلاقات.
القبول يُحدّد في غرفٍ مغلقة، والنتائج تُصاغ حسب الولاء، والفرص تُمنح لمن يعرف “من يتصل”.صار التعليم العالي امتيازًا، لا حقًا. وصار الطالب يُربّى على التملّق، لا على البحث.
الجامعات تُعاني من نقص التمويل، مناهج متأخرة، بنى تحتية متهالكة، وأساتذة يُجبرون على العمل في ظروفٍ لا تُشبه التعليم.لكن الأخطر من ذلك، أن التعليم لم يعد يُنتج وعيًا، بل يُعيد إنتاج نفس المنظومة التي تدمّر الوطن.
النواب… رواتبهم فوق الوطن
في بلدٍ يُعاني من العتمة والعطش، يتقاضى النواب البرلمانيون رواتب ومخصصات تُضاهي وزراء دولٍ مستقرة. راتب النائب لا يقل عن 10 ملايين دينار شهريًا، إضافة إلى مخصصات سكن، نقل، حماية، سفر، ومكافآت.
كل ذلك يُدفع من خزينةٍ تُعلن كل عام أنها “تعاني من العجز”. النواب لا يُحاسبون، لا يُراقبون، لا يُلزمون بالحضور، ولا يُسألون عن الأداء.
بعضهم لا يظهر إلا في جلسات التصويت على الامتيازات، ثم يختفي.
صار البرلمان ناديًا للنخبة، لا ممثلًا للشعب.
النظافة… تُدار بالقمامة
في شوارع بغداد والبصرة والنجف، تُصبح القمامة جزءًا من المشهد اليومي. البلديات تُعاني من نقص المعدات، غياب التخطيط، وفساد التعاقدات. المواطن يُجبر على دفع رسوم نظافة، لكنه لا يرى نظافة. الأحياء تتحوّل إلى مكبّات، والروائح تُصبح جزءًا من الهواء، والمرض يُصبح نتيجةً طبيعية. النظافة ليست فقط مسألة خدمات، بل مسألة كرامة. أن تعيش في حيٍّ نظيف، يعني أن الدولة تحترمك. لكن في العراق، النظافة تُدار بالقمامة، والاحترام يُدار بالصدفة.
السكن… الأرض لمن يملك الحزب
توزيع الأراضي السكنية في العراق لا يخضع لمعايير العدالة، بل لمعايير الولاء. من يملك الحزب، يملك الأرض. من يملك الواسطة، يملك المفتاح. أما المواطن العادي، فيُترك في طوابير الانتظار، أو يُجبر على السكن في العشوائيات. المشاريع السكنية تُعلن، ثم تُلغى، ثم تُعاد صياغتها، ثم تُمنح لمستثمرٍ لا يُكملها. صار السكن حلمًا، لا حقًا. وصارت الأرض تُوزّع كغنيمة، لا كملكية وطنية.
الزراعة… تُدفن في التراب
العراق، بلد النهرين، صار يستورد ليأكل. رغم إعلان الحكومة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، إلا أن البلاد ما زالت تعتمد على الاستيراد بنسبة تصل إلى 80% من السلع الغذائية. الزراعة تُعاني من شحّ المياه، غياب الدعم، فساد التعاقدات، وغياب التخطيط. الفلاح يُترك وحده، يُحارب المناخ، السوق، والبيروقراطية، ثم يُلام على الفشل. الحقول تُهمل، المشاريع تُلغى، والمنتج المحلي يُنافسه المستورد المدعوم. صار العراق يستورد ليأكل، ويُهمل أرضه، ويُطفئ جذور حضارته. هذا المقال يُكتب لا ليُرثي، بل ليُدين. ليُعلن أن ما يجري ليس صدفة، بل سياسة. وأن العراق لا يُنهب من الخارج فقط، بل من الداخل… من مؤسساته، من برلمانه، من وزاراته، من صمته.
نكتب لنقول:
كفى. كفى تدميرًا، كفى تهميشًا، كفى إدارةً بالخراب.



