من إفرازات طوفان الأقصى!
الدّكتور محمد بن قاسم ناصر بوحجام|الجزائر
طوفان الأقصى المبارك المدهش المبهر.. زلزل العالم كلّه، ولفت الأنظار بقوّة إلى قضيّة المسلمين المحوريّة الجوهريّة (قضيّة فلسطين)، التي لن تكون للأمّة حياة إلّا بحياتها آمنة مطمئنّة.
أفرز الطّوفان مواقف ومظاهر وأصنافا من النّاس، يعيشون على الأرض؛ بين أحرارأباة أعزّة كرماء، وأذلّاء أراذل جبناء، وسفلة خونة عملاء. بين رجال صامدين محتسبين أقويّاء، وخائرين منهكين ضعفاء.
طوفان الأقصى الفيصلُ بين الحقّ والباطل، الـمَعْلَمُ البارز في جهاد الأبطال البواسل.. غيّر مجرى تفكير الجميع في التّعامل مع القضيّة الفلسطينيّة، وأربك حسابات المجهزين عليها المجاهرين بتصفيتها.. وأقلق المتآمرين عليها: أقاربَ وأباعدَ من أعدائها الظّاهرين والمتستّرين. وأفسد مخطّطات كثيرة كانت تدبّر وتحضّر منذ عقود لتغيير واجهة منطقة الشّرق الأوسط وطبيعته؛ بما يخدم سياسة أعداء الشّرق بعامّة، والعرب والمسلمين بخاصّة.. لذا جنّ جنونهم، فأصبحوا يتخبّطون في تقديراتهم للثّأر من هذا الطّوفان الجارف وهذا المدّ الزّاحف عليهم بما لم يحسبوا له الحساب الدّقيق، فوقعوا في مصيدة من يملك اليقين في نصر الله، والمتسلّح بالإيمان بربّ العزّة والجلال، والإيمان بقضيّتهم العادلة بما ليس للتّفريط فيها من سبيل. ما يقوم به العدوّ الصّهيوني مع أحزابه من الحقودين على المسلمين والمطبّعين والمنبطحين والمتخاذلين والمحامين عن جرائم العدوّ، والمؤيّدين لكلّ تصرّفاته…يذكّرني بما حرّره شيخ الصّحافة الجزائريّة الشّيخ إبراهيم بن عيسى أبو اليقظان عن سياسة الإنكليز نحو فلسطين سنة: 1937م: ” …اصطدم رأس إنجلترا بصخرة فلسطين المقدّسة فارتجّ، ففقدت رشدهاواختلّ توازنها، فأخذت تفعلفي فلسطين ما يفعل المجنون في المارستان، ولكنّ هذا يهلك نفسه فقط، وتلك تهلك مع نفسها أمّة كاملة، فمهما بلغ المجنون في جنونه فلا يعدو أن يطفئ حريقا ألهبه هو نفسه، بصبّ برميل من البترول عليه على أمل إطفائه. ذلك عين ما فعلته وتفعله إنجلترا في فلسطين اليوم..” (جريدة وادي ميزاب، ع: 141، يوم: 16/1/1937م). أليس الكيان الصّهيوني اليوم هو انكلترا أمس في هذا التّصرّف الـمشين الحقير الأحمق.. فالعدوّ واحد والجنون هو نفسه، وملّة الكفر واحدة.
هذا الطّوفان يقودني إلى تسجيل ملاحظات مهمّة، هي من إفرازات هذا الحدث التّاريخي الكبير:
أوّلا: تفاعل بعض الحكومات العربيّة محتشم، لا يرقى إلى مستوى أهميّة هذا الحدث المفصلي الذي يرجع للعرب والمسلمين كرامتهم وعزّتهم، ويفتح لهم المجال لحياة كريمة شريفة، تتمتّع بالسّيادة والبعد عن التّبعيّة لمن يضمر لهم الشّرّ، ويكيد لهم بكلّ الوسائل وفي كلّ السّبل.
ثانيّا: كثرت التّحرّكات المشبوهة من الغرب والشّرق؛ في محاولات مكثّفة برحلات مارطنيّةلتجهيز مخطّطات ظاهرة وباطنة لتهجير الفلسطينيّين من أرضهم الحقيقيّة، وذلك بالإغراءات الماديّة والمعنويّة، والضّغوط المتواصلة الخطيرة لإقناع حكومات دول الجوار لفلسطين لقبول الفلسطينيّين في أراضيهم، تكرارا واستنساخا لمخطّط سنة 1948م. على قادتنا المحترمين أن يقفوا في وجه هذا المشروع الخبيث. وعلى شعوبنا العربيّة والإسلاميّة أن تقوم بدورها في إجهاض هذا المخطّط الدّنيء..
ثالثا: اتّفاق الغرب – إلّا القلّة القليلة منهم – على محاربة الإسلام بكلّ الوسائل.. فما يحصل مع حدث غزّة خاصّة وفلسطين عامّة(طوفان الأقصى)هو حرب صليبيّة أخرى بوجه آخر ووسائل مماثلة، ومخطّطات مشابهة.. لكنّ الهدف واحد، هو محو المسلمين من الوجود.. وما تواطؤ الجميع في السّاحة، وتنمّرهم واستئسادهم وتحرّشهمعليهم، والتّحريض ضدّهم… إلّا مظاهر للعمل للقضاء عليهم. وما حشد أمريكا لقوّاتها الضّخمة: عدّة وعتادا ورجالا.. بالقرب من فلسطين.. إلّا تصميم على تنفيذ مخطّطات مهيّأة مسبقا.. فعلينا- نحن المسلمين – العمل بكلّ جرأة وشجاعة وتخطيط محكم ودراسة معمّقة للوقوف أمام كلّ هذه الأعمال الخطيرة، فبإذن الله يكون النّصر حليفنا، إذا صدقت نيّاتنا، وقويت عزائمنا، وتحرّكنا في الاتّجاه الصّحيح في العمل التّحرّري المخلص، وكان اعتمادنا على الله في العون والتّوفيق واستمداد القوّة وطلب النّصر منه. “وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَلله لَقَوِيٌّ عَزيزٌ.” (الحجّ/ 40 وكان اعتقادنا اعتقادًا جازما بما فقّهنا القرآن الكريم به: ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
رابعا: من المفارقات التي تكشف عن غِلِّ الغرب على المسلمين تطبيق مبدأ عدم الخلط بين السّياسة وغيرها من المجالات الأخرى: الثّقافيّة والاجتماعيّة والرّياضة… في التّعامل بين النّاس ومع الأحداث. فهو يلزمُ بهالمسلمين بخاصّة من دون غيرهم من الطّوائف الأخرى. فحين يرفع ريّاضيّ عربي أو مسلم علم فلسطين -فقط –يعنّف ويعزّر، ويمنع من حقوقه ويهدّد بالعقوبات.. وبينما لا تطبّق هذه الإجراءات على من يقوم بحركة مماثلة تعبّر عن رأيه، وتعطيه المجال لتطبيق مبدأ الحريّة الشّخصيّة؛ لأنه من أتباعه وشيعته.. الفعل حلال عليهم حرام على غيرهم.. يقوم كلٌّ من الصّحافي والإعلامي بعمله في تغطية الأحداث باحترافيّة وموضوعيّة، فيحاسب إذا قدّم وصفا أو تقريرا عن بعض الجنايات التي يرتكبها من ينتمي إلى الغرب الظّالم الغاشم.. فيعاقب بأنواع من العقوبات، ويهدّد ويضايق وينغّص في حياته المهنيّة وحياته العامّة، وقد يصفّى جسديّا.. بينما يُسمح لمن يقدّم عنهم تقارير تثمّن تصرّفاتهم وتحرّكاتهم، ولو كانت غير صحيحة.. كما حدث في تزوير الحقائق وقلبها في حدث طوفان الأقصى، إذ نسب إعلامهم إلى المقاومة الفلسطينيّة ما قامت به الشّرذمة الصّهيونيّة في حقّ سكّان غزّة من التّنكيل بهم، ونقلت أنّها قامت بكلّ ذلك في حقّ الصّهاينة، شارك في هذا التّضليل كبراؤُهم الذين علمّوهم السّحر ومن نَشَّؤُوهم على الكذب والافتراء.. ولـمّا أدرك العالم بعد أيّام أنّ ما نشروه في وسائل الإعلام كذبٌ وزور وتلفيق، أعلنوا عن ذلك، لكن من دون معاقبة مرتكبي هذه الجريمة الشّنيعة.
خامسا: الصّمود والتّحدّي والثّبات والإصرار على مجابهة الأعداء، ومقاومة الظّلم، والتّعلّق بالظّفر بالمبتغى..يكلّل بالنّصر وهزم العدوّ بإذن الله.. هذا ما رسخ في قلوب رجال المقاومة الأشاوس، فظلُّوا ثابتين في الميدان، مستمرّين في النّضال، غير مكترثين بما ينالهم من العدوّ الصّهيوني وأحزابه من الأقربين والأبعدين.. ليكون النّصر حليفهم إن شاء الله؛ متمثّلين قول سيّدنا أبي بكر الصّدّيق – رضي الله عنه -: اطلب الموت توهب لك الحياة.
سادسا: ذهلَ الصّهاينةُ بِما فعله فيهم طوفان الأقصى، ففقدوا أعصابهم، فاندفعوا هائجين مسعورين، فارتكبوا جرائم ومجازر في حقّ الشّعب الفلسطيني الباسل البطل الصّامد، متجرّدين من أيّ ذرّة من روح الإنسانيّة، كان من بين المجازر الأكثر دمويّةما أقدموا عليه أمس الثّلاثاء:(17/10/2023م)في قصف مستشفى المعمداني بغزّة المجاهدة الصّامدة بكلّ وحشيّة وهمجيّة، فأوقعوا مئات القتلى ومثلهم من الجرحى، وهم يطنّون أنّهم يحسنون صنعا في التّغطية على هزيمتهم النّكراء المريرة يوم السّابع من أكتوبر الجاري، ليظلّوا عائشين على الأوهام: أنّهم سيقضون على المقاومة، وتصفيّة القضيّة الفلسطينيّة.. لكنّ الأيّام والأحداث تؤكّد كلّ مرّة أنّ هذه الانتصارات الظّاهرة تخفي خلفها أو في طيّاتها هزائم آتية متلاحقة بإذن الله وحوله وقوّته.
سابعا: من إفرازات طوفان الأقصى تنبيه وتوجيه ونداء لكلّ حرّ أن يلحق ويركب قطار الجهاد والدّفاع عن حقّ الشّعب الفلسطيني، مادام في الوقت متّسع،فإنّ وصوله إلى برّ التّحرّر قريب إن شاء الله.. فمن تخلّف فلا يلومنّ إلّا نفسه، فالله يحاسب، والتّاريخ يعاقب، والأجيال تعاتب.
نقول في ختام هذه الخواطر: تحرير فلسطين دَينٌ علينا، وفرض محتوم لا يجوز التّخلّي عنه، نقوم به بما نستطيع وما يتيسّر لنا، فلنحذر من التّفريط في هذا الواجب..ولنَدعُ لإخواننا في الميدان بأن يمدّهم الله بالقوّة الماديّة والمعنويّة، مردّدين: اللّهم يا منزّل الكتاب، سريع الحساب، هازم الأحزاب، أرسل على المعتدين المتحزّبين ريحا عاصفة تزلزل الأرض تحت أقدامهم.. ونستعين نيابة عنهم بقوله عزّ وجلّ: اللّهم أفرغ علينا صبرا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ونهمس في آذانهم قول الله عزّ وجلّ: “فلا تَهِنُوا ولا تَحزنُوا وأنتم الأَعلَونَ إِنْ كُنتُمْ ُمُؤمنينَ إِنْ يَـمْسَسكُمْ قَرْحٌ فَقَد مَسَّ القَوْمَ قرحٌ مثلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُـهَا بَيِنَ النّاسِ وَلِيعلَمَ اللهُ الذين آمَنُوا ويتّخِذَ مِنكُمْ شُهداءَ واللهُ لا يُحِبُّ الظّالمينَ” (آل عمران/140).
الجزائر يوم الأربعاء: 03 ربيع الثّاني 1445ه
18 أكتوبر 2023م