علم النفس الإيجابي والإبداع The Positive Psychology Of Creativity

ساره باتي Sarah Battey – ترجمة وتنسيق: د. محمد السعيد عبد الجواد أبو حلاوة أستاذ الصحة النفسية المساعد، كلية التربية، جامعة دمنهور

أولاً- مقدمة:

تعددت التعبيرات التي استخدمت في أدبيات علم النفس الإيجابي لوصف الظاهرة الإبداعية منها بصورة تعبير “الإبداع الإيجابي Positive Creativity” تبديدًا لوهم يموج في أذهان عديد من الناس مفاده أن “الظاهرة الإبداعية” بتكوينها رباعي الأبعاد: الشخص، العملية، المنتج، والسياق أو الضغوط هي بطبيعتها “إيجابية”، والأمر يقينًا على نحو مغاير، إذ يمكن أن يكون الإبداع ابتداعًا يتوافر فيه عنصر الغرابة والجدة وينقصه الإثمار Fruitfulness أو التوظيف الإيجابي، أو ينتج عنه تداعيات أو نواتج ضارة، وعلى ذلك راج في أدبيات علم النفس الإيجابي في الوقت الحالي تعبير “إيجابية الإبداع Positivity of Creativity“.

يشير مصطلح “الإبداع” إلى ظاهرة يتم بموجبها التوصل إلى شيء جديد يتضمن قيمة ذاتية وميزة نسبية مفيدة مضافة إلى الوجود كأن يكون ذلك الشيء: فكرة، نكتة، أداء عمل بطريقة جديدة، عملاً فنيًا أو أدبيًا أو موسيقيًا يتوافر فيه ملامح معينة، أو حلاً لمشكلة أو أزمة، أو ابتكار جديد ومفيد.

وينظر إلى الإبداع أيضًا على أنه خاصية أو عتادًا نوعيًا كيفيًا كامن في التكوين النفسي للشخص يقف وراء أي فعل تجديدي، وعادة ما يٌدرك كمكن قوة ومقدرة ترتبط بكل من الذكاء والعمليات المعرفية الحيوية الأساسية والميتا – معرفية.

وتأسيسًا على ذلك الإبداع عملية توليد أو تخليق أفكار جديدة ومفيدة، ويمثل قوة الدفع المركزية لكل الابتكارات والمستحدثات والاكتشافات التي غيرت طبيعة ومسار الحياة البشرية، وتتضمن عملية الإبداع رؤية ارتباطات جديدة بين المفاهيم والأشياء ويتحدد في ضوئها التواصل إلى حلول فريدة أصيلة غير مألوفة للمشكلات.

ومن هنا فإن العملية الإبداعية The creative process تتعلق برؤية وإدراك العلاقات والمتعلقات الجديدة بين الموضوعات والأشياء والمفاهيم، وأن الشخص المبدع The creative person يتميز بسمات نوعية بالغة الرقة والروعة تجعله تركيبة أو وحدة أو جشطالت نفسي يتمثل شكلاً بارزًا على أرضية العاديين وتتمثل هذه السمات في: الأصالة originality، المغايرة الإيجابية Positive nonconformity، وارتفاع مستوى التفهم المفعم بالوعي والمعرفة high levels of knowledge وعند توصل الشخص إلى حل فريد ومختلف ومفيدة لمشكلة ما لم يكن يٌعرف من قبل، هنا تسقط عليه صفة من صفات الشخصية الإبداعية.

واجتهد علماء النفس وصف وتفسير الإبداع باستخدام عديد من النظريات والنماذج النظرية تتمثل أهما فيما يلي:

– النظريات المعرفية للإبداع cognitive theories of creativity أي وصف وتفسير الإبداع كعملية معرفية cognitive process تٌقارب مفاهيمًا وتصويريًا باستخدام التكوينات والتركيبات النفسية العقلية.

– النظريات السلوكية behavioristic theories: ويٌقارب فيها الإبداع من خلال التوقف عند وصف وتحديد العوامل أو الظروف البيئية الشارطة للإبداع تنمية أو تعويقًا وفي إطار فكرة “الارتباطية” لطبيعة الأفكار الإبداعية. 

– النظريات السيكودينامية psychoanalytic theories: ويٌقارب فيها الإبداع من منظور “العُصاب creativity as neuroticism”. 

– النظريات الاجتماعية social theories: ويٌقارب فيها الإبداع كعملية اجتماعية والتوقف عند الدور الذي تلعبه المدارس والأسر في تنشئة وتنمية الأطفال الموهوبين.

– نظريات الشخصية personality theories: ويٌقارب فيها الإبداع عبر التأكيد على سمات شخصية المبدع، أو سمات الشخصية الإبداعية. 

وبصورة عامة يقارب الإبداع في علم النفس من زاويتين أساسيتين فضلاً عن طبيعة السياق الإبداعي ومواصفات المنتج الإبداعي، وعلى ذلك تتعلق سيكولوجية الإبداع بما يلي:

(أ) العملية الإبداعية The Creative Process: ويركز في هذا المسار على تعريفات الإبداع ومشتملاته والعمليات النفسية المتضمنة فيه.

(ب) الفرد المبدع The Creative Individual: ويتعلق الأمر هنا بسمات شخصية الفرد المبدع، مع تركيز على صفحته النفسية الشخصية وما يكمن وراء الإبداع والمنجز الإبداعي من خصائص، ويتم التعامل في هذا المنحى أيضًا مع ما يصح تسميته مظاهر الغرابة والتمايز في الشخصية الإبداعية.

ويعتقد بعض الباحثون عند وصف طبيعة الإبداع والذكاء intelligence أن الإبداع دالة لنفس العمليات المعرفية المتضمنة في الذكاء، أو الإبداع يحكم عليه فقط بأنه كذلك تأسيسًا على نواتجه أو تداعياته، بمعنى أنه عندما يترتب على العمليات المعرفية ناتجًا يفضي إلى تكوين شيء جديد فيما عبر عنه بيركنز Perkins بمصطلح “فرضية لا شيء خاص “nothing special” hypothesis.

وعلى ذلك عُد الإبداع من هذا المنظور أحد البناءات المركزية في بنية علم النفس الإيجابي المعاصر، وتعددت الدراسات البحثية التي استهدفت الكشف عن العلاقة بين الإبداع والتوجهات الإبداعية في الحياة وحالة الهناء أو التنعم والازدهار الإيجابي بمستوياته المختلفة “الذاتي × الاجتماعي × المؤسساتي” بوصفها الغاية النهائية لعلم النفس الإيجابي بل وإطاره العام الناظم لكل قضاياه؛ وبالتالي من غير المستغرب تضمين “الإبداع” في منظومة بصمات القوة الأربع والعشرين التي يحتويها ما يعرف بدليل علم النفس الإيجابي المسمى بالقيم  والفضائل في الفعل  Values – In – actions framework.

وينظر إلى الإبداع creativity وفقًا لهذا الدليل في تفاعله مع: الشغف curiosity ، الحكم والتقييم judgment، حب التعلم love of learning، واتساق الأفق perspective كتأصيل لفضية الحكمة والمعرفة wisdom and knowledge.  

ويعرف الإبداع وفقًا لدليل بصمات القوة والسجايا والفضائل الإنسانية في تجسيده لدستور علم النفس الإيجابي على أنه تعبير عن “الجدة والأصالة originality” × الإتقان والبراعة ingenuity وبالتالي يمثل “القدرة على التفكير بطرائق جديدة ومثمرة في تصوير وتحقيق الأهداف”. 

وقد يتم التعامل مع الإبداع من منظور علم النفس الإيجابي على أساس كونه تمثيلاً لمتصل continuum يبدأ من “الإبداع العملي practical creativity” الذي يخبره الشخص على نحو يومي، إلى الإبداع أحادي الوثبة once-in-a-lifetime كحالة عادة لأولئك الذين لديهم إتقان حقيقي في المجال الذي اختاروه لفضاء تميزهم.

وقدم مارتين سليجمان في كتابه “السعادة الأصيلة أو الحقيقية Authentic Happiness” وصفًا للإبداع كبعد أو جانب لفئة واسعة من مكامن القوة تتضمن “البراعة والإتقان ingenuity“، “الجدة والأصالة originality“، “الذكاء العملي practical intelligence“، و “ذكاء الشارع أو دهاء رجل الشارع العادي street smarts” ، وعبر عن ذلك بقوله “عندما تواجه بشيء ما تريده، هل تجد نفسك متميزًا في الإتيان بسلوك مناسب لتحقيق هدفك”.

ثانيًا – شروط الإبداع Conditions for Creativity:

يتطلب الإبداع كما يعبر عنها في تحليله النهائي بالمنتج الإبداعي Creative Outcome امتلاك “المُبدع” كشخصية توجهًا عقليًا معينًا في الحياة قوامه حالة الشغف بالحياة والإقبال عليها والمرونة المعرفية واتساع الأفق والانفتاح العقلي وتعددية الرؤية وتكاملية أنماط التفكير، إذ أن الإبداع دالة في صيغته الإجمالية للتفاعل بين عوامل داخلية تتعلق بطبيعة الشخص وخصائصه وموقفه ورؤاه وتصوراته لذات وللحياة وعوام خارجية تتعلق بما يصح تسميته البيئة المحفزة والداعمة.

ويصعب في واقع الأمر التفكير في الظاهرة الإبداعية بالتوقف عند ما يصر عليه أنصار المنحى السيكومتري في الوصف والتحليل بالتوجه نحو تحديد الأوزان النسبية لإسهامات كل عامل مع هذه العوامل في منتجها النهائي؛ إذ يبقى المجهول في الوصف والتحليل والتفسير بالرغم من كل ما تم التوصل إليه أكثر من المعلوم؛ الأمر الذي يجعل الظاهرة الإبداعية مشروعًا مفتوحًا على الدوام لمزيد من المقاربة وربما التأويل الدينامي لسبر بنيتها وسياقها ومنتجها.

ورأت باربرا فريدريكسون Barbara Fredrickson (2003) في سياق نظريتها عن “التوسيع ـ البناء broaden-and-build theory” أنّ امتلاء البنية النفسية للشخص بالانفعالات الإيجابية يفضي إلى ثراء رصيد ما سمته التفاعلية بين التفكير ـ الفعل thought-action repertoire بما يتضمنه ذلك الرصيد من توجه نحو مقاربة الوجود بتفاصيله ووقائعه وأحداثه ومهامه وأنشطته بذهنية مفعمة باليقظة والوعي بالحال والبصيرة بالمُعْطي والممكن والتدثر بفلسفة الإمكان والتحليق بتفكير استباقي قائم على التدبر وتصوير الاحتمالات وترجيح ما هو أقرب للتحقق والاندفاع باتجاه تحقيقه بمغايرة للسائد والمألوف.

وأيدت نتائج عديد من الدراسات البحثية فرضية “أن الانفعالات الإيجابية تزيد من احتمالات الإبداع”، فقط خلصت نتائج دراسة (Nadler, et al, 2010) إلى أن المشاركين الذي استثيرت في تكوينهم النفسي انفعالات إيجابية عبر الاستماع إلى موسيقى مبهجة وفيديوهات كوميدية تميز تفكيرهم بالجدة واستطاعوا حل المشكلات والمهام المقدمة لهم بطرائق غير مألوفة وبمعامل زمن أقل وبمستوى مرتفع من الدقة.

الأمر الذي يمكن معه التنويه إلى حتمية تأسيس بيئة تعلم إيجابية إذا ما أريد تحفيز الإبداع في البناء النفسي للمتعلمين بمصاحباته التي تتمثل في التدفق التلقائي للأفكار والتوجه نحو التجديد والانفتاح على الخبرة. 

 ثالثًا- الإبداع وعلم النفس الإيجابي:

كيف يمكن أنّ يؤدي الإبداع إلى الهناء أو الازدهار؟ تفيد مراجعة أدبيات علم النفس الإيجابي ذات الصلة إلى وجود ثلاث آليات تسهم بصورة مثبتة بالدليل في تعزيز كون الإبداع أحد مسارات وعوامل تخليق حالة الهناء والازدهار بدلالاتهما المتعارف عليها في توصيفات علم النفس الإيجابي، وتتمثل هذه العوامل فيما يلي:

– أصالة الذات “الذات الأصيلة” The Authentic Self: يبحر في الحياة من يعتبرون “الإبداع” من بين بصمات قوتهم الشخصية في الحياة بروح وثابة قوامها: الأصالة، الغرض، والمعنى في الإنفاذ السلوكي لهذه البصمة، وتراهم على الدوام في حالة من الحيوية والفاعلية في نحت طرائق حياة تزيد من إبداعهم في الحياة. ويجدر الإشارة إلى أن ما يكون أو يشكل هذا الإبداع يرتكز على ما يصح تسميته الطابع النوعي الخاصة للبصمة الإبداعية لكل شخص، فقد يكون إبداعًا فنيًا، ثقافيًا، ابتكاريًا منتجًا، علميًا، أو نوع من أنواع النشاط الأصيل الأخرى. 

– التركيز الإيجابي Positive focus: صيغ محتوى كتاب ميهالي سكزنتيمهالي Czikszentmihaly “الإبداع Creativity” على نتائج المقابلات الشخصية مع أشخاصٍ مبدعين في مسارات وأشكال الإبداع المختلفة في الحياة ومن قطاعات مهنية متنوعة، أنّ الإبداع ظاهرة إيجابية يستثمر بموجبه الشخص طاقاته وممكناته الكامنة في تكوينه بشكل مفيد وحرفها عن أية مسارات ضارة، وعبر عن ذلك المعنى بقوله أن “توجه الشخص نحو التسلية والإلهاء ربما يحجب الفوضى التي بداخلك مؤقتًا، في المقابل فإن الانتباه يستوعب ما يتبقى منها؛ وعندما نتعلم فن الاستمتاع باستخدام طاقاتنا الإبداعية الكامنة تتخلق بداخلنا قوى تدفعنا باتجاه استدامة التركيز، هنا وهنا فقط لا نتجنب الاكتئاب وفقط، بل نزيد من حدة وعمق قدراتنا على الارتباط بالعالم من حولنا” (Czikszentmihalyi, 2007). وعلى ذلك فتوجه الشخص نحو تخصيص وقت يدمج فيه الأنشطة الإبداعية في حياته يمكن أن يفتح نوافذ عقله لاكتشافات جديدة، تتيح له أمكان وطرائق جديدة للاندماج في العالم بإيجابية توجه يملئ حياته بالهناء.

– التدفق Flow: عندما تتطابق التحديات والمصاعب والمهام التي يتعين على الشخص التعامل معها مع قدراته يدخل في دوامة إيجابية لما يعرف ب “حالة التدفق state of flow“، تلك الحالة التي يجد الشخص نفسه بموجبها مندمجًا باستغراق تام في مهام الحياة وفاقدًا لأى شعور بالوقت مع اندماج ما يعرف بالأفعال في الوعي. وهذه حالة يخبرها الأشخاص عبر نطاق واسع من الأنشطة تمتد بين الأنشطة الفنية، الرياضية، الموسيقية، العلمية، أو الابتكارية. ويتيح لنا التدفق التعايش مع النشاط أو المهمة بذهنية الاستمتاع بها في حد ذاتها واعتبارها هي وهي فقط مصدر البهجة والمتعة دون انتظار أية إثابات أخرى من خارج نطاقها.

رابعًا- ثلاثة تدريبات لتعزيز الإبداع:

أسس التعليم المدرسي التقليدي على ثقافة ما يمكن تسميته “الإجابات الصحيحة”، وعلى “الأداء القائم على معامل الدقة والإتقان”، ومع اندفاعنا لتأصيل هذه الثقافة على صوابها نسينا أو على الأقل تجاهلنا إقرار ما يصح تسميته “فوائد الأخطاء” أو “الإخفاقات”، فالأخطاء والإخفاقات فرصًا مثالية في واقع للأمر للتعلم وتصويب الذات، بل ويمكن التأكيد على أنّ عديد من “الابتكارات” و “المستحدثات” الإبداعية في الحياة ولدت أساسًا من رحم “الأخطاء”، و “المحاولة والخطأ القائم على البصيرة والتدبر”.

وادعى كين روبنسون أن السبب الأساسزم وراء إخفاقنا في الإبداع أن مدارسنا وعلى حد تعبيره تعلمنا أن نكون على صواب ، أي تركز على الإجابات والأداءات الصحيحة، فنتخرج من المدرس ونحن غارقون في الخوف من الخطأ؛ وبالتالي الحذر من المحاولة فتنطفئ بداخلنا ما يصح تسميته روح “اتخاذ المخاطرة المحسوبة” والتي هي وقود الإبداع، والتنكر لها يخنق الإبداع في التكوين.

وعليه طالب كين روبنسون بأن نسمح لأنفسنا بأن نخطأ ولو لمرة، وأن نشيد ثقافة عمل ترى الأخطاء كسمار للتحديث والابتكار والارتقاء، ومن هنا يأتي السؤال ما الذي يمكن أن تفعله إذا علمت بأنه يتعين عليك أن لا تخطئ؟ ربما يتخلق لديك ما يمكن تسميته “الكف المعرفي والسلوكي”.

 

(1)أبحر في دوامات الارتقاء عبر الانفعالات الإيجابية:

من الطرائق الفاعلة في تعزيز التفكير الإبداعي والمنتج الإبداعي أن تجعل الانفعالات الإيجابية عادة حياتية أصيلة في تكوينك. نعم: لكن هل هذا الأمر سهل؟! بشكل أي معظم الأحداث التي تواجهنا إما إيجابية أو سلبية، ومع ذلك فإن هذه الأحداث بطبيعتها تبقى محايدة إلى أن نصنفها إلى هذه أو تلك عبر رؤيتنا وتقييمنا وتفسيرنا؛ لذلك يصح القول “يبدو العالم لك كما تحب أن تراه”، بمعنى “أنك تختار كيف تنظر إلى العالم”.

وتوصلت اختصاصية علم النفس الاجتماعي باربرا فريدريكسون إلى أن لدى البشر ميل إلى اختيار تصنيف الأحداث تحت صفة “الإيجابية” أكثر من صفة “المحايدة”، وأننا نخبر انفعالات إيجابية مثل: البهجة والتذوق والتقدير بما يؤدي وفق تصوراتها إلى اتساع دوامة الانفعالات الإيجابية.

وتبعًا لذلك صاغت باربرا فريدريكسون نظرية “التوسيع ـ البناء”، وفيما يلي كيفية تفسيرها للنتائج التي توصلت إليها.

أجرت باربرا فريدريكسون دراسات بحثية تجريبية منضبطة ووجدت أن الانفعالات الإيجابية تغير الطريقة التي ننظر بها إلى العالم من حولنا، إذ أنها تجعلنا في حالة من الوعي المفعم بالانفتاح على وقائع الحياة وخبراتها وتقبلها والترحيب بها والإبحار فيما حولنا بروح تفاؤلية تقترن باعتقادنا في القدرة على إنجاز مهام الحياة باقتدار وجدارة.

ومن هذه الأرضية يتخلق الإبداع في تكويننا؛ إذ أن اتساع نطاق رؤيتنا للعالم من حولنا يجعلنا أكثر مرونة وأكثر رؤية لكل جديد وأكثر توجه للابتكار والتجديد ورؤية حلول إبداعية للمشكلات (Fredrickson, 2003)، وتأسيسًا على ذلك تشير باربرا فريدريكسون إلى أنّ تنمية وإثراء وسع ونطاق الانفعالات الإيجابية طريقة فاعلة في تنمية المنتج الإبداعي.

ومن التدريبات الأكثر فاعلية في تخليق وإثراء دوامات الانفعالات الإيجابية ما يعرف “بقائمة الامتنان gratitude journal” وتتم عن طريق تخصيص بعد الدقائق كل ليلة تكتب فيها ثلاثة أشياء جيدة حدثت لك خلال يومك، وقد تواجه بعض الصعوبات في البداية في إيجاد ثلاثة مواقف إيجابية كل يوم، ولكن مع استدامة فعل البحث والتفكير في كل ما هو إيجابي في يومك تصبح أكثر وعيًا بعديد من الأشياء الصغيرة التي كنت تميل إلى تصنيفها على أنها محايدة وستكشف ما بها من إيجابيات.

 

(2) مارس اليقظة العقلية “الامتلاء العقلي المفعم بالوعي بالحال هنا والآن mindfulness “:

هل ما زلت تقرأ عن “اليقظة الذهنية”؟ ألم تفكر يومًا في تضمينها في حياتك اليومية؟ حسنًا ربما لا تكون مقتنعًا إلى الآن بفوائد اليقظة الذهنية فيما يتعلق بتعزيز الهناء والصحة الجسمية بل ودفعك باتجاه الإبداع، فصحح تصوراتك؛ إذ أن الوعي المفعم باليقظة والتركيز بالحال هنا والآن وبذاته في السياق والسياق في ذاتك مقترنًا بالتدبر والبصيرة أمرًا أساسيًا في الفعل الإبداعي، وهنا علينا أن نجعل من هذه الحالة أسلوب حياة وانشغال وجود وليس موجات متتالية ترتفع حينًا وتخبو أحيانًا.

وما عليك إلا أن تبحر معي بكثير من التفكر والتفاكر: الإبداع يأخذ وقتًا طويلاً ويستلزم جهدًا مضنيًا ويفرض تدثرًا بصبرٍ جميل، وعدوه الأساس هو “التحدث السلبي مع الذات” “الإنصات لصوت التخذيل بصخبه وسلبيته والتفافه حول مقولة لن أستطيع”.

وتبعًا لذلك كل ما عليك أن تعلمه أن “ممارسة اليقظة العقلية أو الذهنية” كحالة لامتلاء وعيك آنيًا بالحال والحادث هنا والآن داخلك وحولك يزيد من توجهك “للشفقة بالذات self-compassion“، تقويض لصوت التأنيب الداخلي وجلد الذات (Grossman, Niemann, Schmidt, & Walach, 2004)

واليقظة العقلية أو الذهنية تأسيسًا على ذلك حالة من الأريحية في الوجود لكنها أريحية مفعمة بانتباه وتقيظ لعطاء الحاضر وموجبات اللحظة، فمع ملاحظة انفعالاتنا وأفكارنا بطريقة آنية قائمة على التقبل والانفتاح وتوقف عن التقييم والحكم، نبعد أنفسنا عن التحدث السلبي مع الذات، ونسكن إراديًا في خبرة اللحظة وصفًا وتحليلاً وتدبرًا واستثمارًا.

وبالتالي فإن ممارسة اليقظة الذهنية بانتظام تسمح لنا بالاستمتاع بعملية التوجه للولوج في دوامة الإبداع بدلاً من التركيز على نواتج مرغوبة محددة سابقة التجهيز معلومة الصياغة مقولبة المضمون.

وتكتمل بنية ممارسة اليقظة العقلية بأن:

  • تتقبل الأخطاء! تبدأ الآن، وأن تدرك ممكنات وعطاء الحاضر للارتقاء والتجديد.
  • أن تستمر في تدوين كل ما هو إيجابي إعلاءً للامتنان، وأن تخصص وقتًا لكتابة على الأقل ثلاثة أشياء جيدة عشت معها أو حدثت لك كل يوم.
  • الاختلاء الإيجابي بالذات على نحو يومي وممارسة فعل التدبر والتأمل.

(3) خذ هذه الرسالة معك إلى المنزل:

بغض النظر عن الطريقة التي تعبر بها عن إمكانياتك الإبداعية، لهذا التعبير فوائد مثبتة على صحتك الجسمية وعلى مستوى الهناء النفسي وتنعمك في الحياة. ويبدأ الإبداع بتواجدك في بيئة مشجعة عليه، وينمو من الفرص التي تتاح لك للتجديد والانطلاق في الحياة بعقلية قائمة على الانفتاح على الخبرة واتساق الأفق والتفكير الاستباقي، والاندماج في الحياة بتلقائية وتدفق، وإثبات لماهية وأصالة ذاتك ومغايرتك الإيجابية للسائد والمألوف لا تمرد عليه إنما تجويدًا وترقية له.

  • المصدرين الأساسيين:
  • Battey, S. (2019). The Positive Psychology Of Creativity. https://positivepsychology.com/creativity-positive-psychology/
  • shary ismail (2019). Cognitive focused approaches in positive psychology: https://www.academia.edu/4376773/Cognitive_focused_approaches_in_positive_psychology?email_work_card=view-paper

***

للمزيد راجع:

  • Czikszentmihalyi, Mihaly (2007).Creativity. Kindle Edition. London: Harper Collins ebooks.
  • Fredrickson, B.L. (2003).The Value of Positive Emotions. American Scientist, 91, 330-335.
  • Nadler, R., Rabi, R. and Minda, J.P. (2010).A positive mood allows your brain to think more creatively. Retrieved (15/06/2016) from:http://www.psychologicalscience.org/index.php/news/releases/a-positive-mood-allows-your-brain-to-think-more-creatively.html
  • Seligmann, M. (2002). Authentic Happiness. Kindle Edition. New York: Free Press.
  • Fredrickson, B. (2003). The value of positive emotions: The emerging science of positive psychology is coming to understand why it’s good to feel good. American Scientist, 91(July-August), 330-335.
  • Fredrickson, B. L. (1998). What good are positive emotions? .Review of General Psychology, 2(3, Sep 1998), 300-319.
  • Grossman, P., Niemann, L., Schmidt, S., & Walach, H. (2004). Mindfulness-based stress reduction and health benefits: A meta-analysis.Journal of Psychosomatic Research, 57(1), 35-43.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى