فكر

غزوة الخندق والأخذ بالأسباب وتقرير المصير

د. طارق حامد | مصر

لقد كان حفر الخندق لحظة مفصليّة في السيرة النبوية، تجلّى فيها المنهج الحضاري المتكامل الذي يجمع بين القوة الروحيّة والاجتهاد العقلي والأخذ بكل سبب ماديّ مشروع. لم يكن مجرد تكتيك عسكري ظرفي، بل كان بيانًا عمليًا لفلسفة بناء الأمة القائمة على الاستغناء والاكتفاء الذاتي وتقرير المصير. لقد حوّل النبي صلى الله عليه وسلم التحدي الوجودي إلى مشروع حضاري يُعلّم الأمة كيفية التعامل مع التحديات عبر العصور.

     أولاً: الخندق كمنهج حضري في التخطيط الاستراتيجي والاستفادة من الموار المحلي
فلم يُستجلَب مهندسو الخندق من خارج دائرة الأمة،بل كانت الخبرة موجودة في شخص سلمان الفارسي رضي الله عنه، فتم توظيفها. لم تُستورَد أدوات الحفر، بل هي المعاول والعراقيّ والأيدي العاملة للأمة نفسها. هنا يكمن الدرس الحضاري الاقتصادي العصري: أن الاستقلال الحقيقي يبدأ بتطوير رأس المال البشري المحلي، والاستثمار في البحث والتطوير الداخلي، وعدم الاعتماد على الخبراء المستوردين في القطاعات الاستراتيجية التي تحفظ كيان الأمة. إن بناء الاقتصاد المنتج، والزراعة المستدامة، والشبكات اللوجستية المحصّنة، هو امتداد لفلسفة الخندق: تحصين الداخل قبل مواجهة الخارج.

ثانيًا: الخندق كفلسفة عسكرية تتبنى الابتكار وامتلاك أدوات الردع
لقد أحدث الخندقثورة في الفنون العسكرية العربية آنذاك. كان ابتكارًا صادمًا للمألوف. وهذا يفرض على الأمة اليوم أن تسير على ذات النهج: ليس فقط بامتلاك السلاح، بل بتصنيع السلاح الاستراتيجي، وليس فقط بشراء التكنولوجيا، بل بتطوير تكنولوجياتنا الذاتية في مجالات الفضاء والحرب الإلكترونية والذكاء الاصطناعي العسكري. إن السيادة الوطنية في القرن الحادي والعشرين تُقاس بقدرة الأمة على تطوير منظومة دفاعها الجوي، وصواريخها بعيدة المدى، وأنظمتها البحرية المتطورة، دون رهبة أو رغبة من أي قوة خارجية. فالجيش الوطني القوي المزود بصناعة محلية هو الخندق الحديث الذي يردع العدوان ويحمي قرار الأمة المستقل.

ثالثًا: الخندق كرمز للوحدة الداخلية والاكتفاء الجماعي
لقد وحد الخندق المهاجرين والأنصار،ووحد القادة والجنود في عمل جماعي واحد تحت تهديد مصيري. وهذا يترجم اليوم إلى ضرورة التكامل الاقتصادي بين دول الأمة، وخلق سوق إنتاجية موحدة، وسلاسل إمداد محلية بديلة عن التبعية للخارج. إن الأمن الغذائي والأمن الدوائي وأمن الطاقة هي خنادق العصر التي يجب حفرها بيد الأمة، حتى لا تتحول إلى أداة ضغط تستخدمها القوى الخارجية لتحقيق مآربها. فالأمة التي تستورد قوت يومها وأدوية أبنائها ووقود صناعتها، هي أمة مُحاصَرة بخندق لا تراه، ولكنه أعمق وأخطر.

ختامًا:
لقد علمنا الخندق أنالحرية والكرامة وتقرير المصير لا توهب، بل تُحفر بالإرادة والعقل واليد. إن التوجه الحضاري الذي نستخلصه هو بناء دولة المنعة التي تتحكم في مقومات بقائها، وتصنع أدوات حمايتها، وتُشرِّع لقراراتها بمعزل عن إملاءات الخارج. هو مشروع يحوّل التحدي إلى فرصة، والضعف إلى قوة، والتبعية إلى استقلال. إنه طريق شاق طويل، لكنه الطريق الوحيد الذي يصون للأمة وجودها، ويحفظ لها هويتها، ويضمن لأجيالها مستقبلاً لا يكونون فيه أتباعًا، بل فاعلين في مسيرة التاريخ. فالخندق لم ينتهِ بغزوة الأحزاب، بل هو مشروع مستمر كلما ارتفعت راية الأمة وعلت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى