وقفة نقدية مع قصيدة (لم أتقن قراءاتي) للشاعرة ريم سليمان الخش

محمد صالح-شاعر وناقد بحراني

وقفة نقدية مع قصيدةلم أتقن قراءاتي للشاعرة 
 د. ريم سليمان الخش

 

 

أولا لابد أن أنوه أنّ النص (وشعر الدكتورة بشكل عام)
هو وحي فلسفي شعري عميق جدا ثري وبأنفاس غاية في التطاول وبإيقاعات حوارية غنية قادرة على التشكل بمستوى يتعالى :

* قيمة فكرية:

إن  تجربة الشاعرة تجترح عوالمها المتداخلة في مضامين وأبعاد: إنسانية عن الذات البشرية في أدق تفاصيلها ومساماتها وخلجاتها وأكثرها غموضا وتشعبا.. وكأنك عالمة نفس أو مجتمع، والعجيب أنها -هذه العوالم- تتكامل فمرة عن الجسد، مرة عن الروح والنفس، مرة الفرد، ومرة عن المجتمع، وفي ميادين وقضايا سياسية اجتماعية فنية بلمحات ثقافية فلسفية ..هي تمثل بالواقع احتكاك الأدب متمثلا بالشعر بكل مقاربات الحياة وأوجه الوجود وتشكلاتها وتمثلاتها الخافية والجلية، والبسيطة والمعقدة، والجزئية والكلية، وببعد الذات- والآخر- والمجتمع، والمفاهيم المجردة والأفكار، بأبعادها المتعددة وفي كل تجلياتها وميادينها.. وطنا، غربة، حربا ، حادثا، موضوعا وجدانيا، كشفا عن التناقض، احتفاء بحياة، التفاتة لجانب ما .. لقضية .. فكرة مجردة.
وإنه لصحيح ولغزير ومدهش، ما يتجلى بوضوح بارز في هذه التجربة وما تتميز به في صعيد الموضوع والمادة من أنها تفيض بهم الإنسان فنيا فكريا واقعيا: فتبرز :
النزعة الإنسانية. والنزعة الاجتماعية الواقعية. والنزعة الفكرية والفلسفية. إنه صراع وجودي محتدم.
كل ذلك يمثل وضوحا في الرؤية الشعرية ومرجعيتها يلتحم فيها الشعر بغيره مما يمثّل ويمثل في هذه التجربة المتنوعة في معطياتها والصاعدة في فنياتها.
إنها تمثل مجموع هذه النزعات التي تتخايل بها نصوصك وتنهض اكتشافا وتساؤلا واستفزازا ومغامرة شعرية لا تركن إلى المألوف والمستهلك .
إن الدكتورة ريم الخش شاعرة كونية الرؤى والدلالات والهموم والغايات.
وإنك بلا أدنى مجاملة تقدمين بذلك قصيدة خاصة ، حية، متفاعلة، وجودية، مثقفة في كل أغراضها، وعناوينها.
وأكرر أيضا  حين تقبض الدكتورة على موضوع فلا بد أن تصل فيه لغايته القصوى مناقشة وعلاجا واستعراضا ولكن بلباس الفن المتحرك وخاصة بأسلوب الحوار.

الحوار ووضوح الرؤية:

إن النزعة الحوارية المتوشحة بروح وجودية- درامية هي الأسلوب الذي افتتن تجربتك واحتضنها، لتتصاعد في نصوصك حواريات جوهرية هامة تعبر بجرأة وثقة وفطنة بل فتنة إلى الدقائق المغيبة والحقائق الكامنة.. وهي لا تغفل وتهمل المظاهر والعوارض بل تتربص بها وتستكشف ما غاب وما بعد. إن كل حوار يولد معاني ويفجر أبعادا عبر احتكاك الأسئلة واختمار الأجوبة. إن القصيدة لتغدو اختبارا فنيا ووجوديا للذات قبل كل شيء.
إن القصيدة هكذا لتحتوي على تركيب وتداخل صوتي من شأنه أن يحفّزها ويهبها الجمال والعمق والدهشة الحية المتجددة. إنها إيقاعية وجود واحتفال به حيث تتشابك الأبعاد وتختلط.
تجربتك ولادة، خلابة، جريئة جدا، تتكامل فيها غزارة الإنتاج مع العمق والاقتدار التعبيري- التصويري الرائع والأداء الفني المائز والي ما لا يُضاهى وإلى ما يمتع ويطرب ويذهل أيما إذهال.
إنها قصيدة وجودية موقوفة عليك حقا تعيدين فيها الذات الفنية والإنسانية إلى اكتشاف الاكتشاف حيث المنابع وتفجير الصورة الام والبكر ،الصورة الكلية أو الأولى، وحيث إعادة صنع الذات والحياة ، بلا هوادة بينما تسرف كثير من النصوص الشعرية- عند آخرين كثيرين- وتغرق وتستهلك فنياتها ومداراتها في ميادين تضيق وتتكرر في الفضاء الشعري المتراكم على الأقل في الهم الفكري وفي الهدف الفني، لتبقى ذات لون واحد وبعد سطحي أو بعد مستنزف وتنكفئ على عالمها وينكفئ معها عالم الشعر وثقافة صنعه وتلقيه، وتتكر التجربة فيه لا تقدم إلا وجها واحدا كموضوع الحب، الغزل، المرأة، الذات النرجسية ومغامراتها وووو.

**

*قيمة جمالية بنائية.

هذا النص الذي أدرسه اليوم كمثال حي يشخص ماذكرت آنفا … ينفرد من بين التجارب الشعرية ويمتلك:

– لغة إبداعية خاصة جدا جدا وهائلة في غناها تطوّعها يد غنية تستخرج لآلئها بأعلى دلالتها ومكنوناتها وتنسجها بدون وهن وبدون تفاوت أو تعثر في القوة والمتانة والرصانة والسلامة. فهو قاموس الخصب والنقاء والعذوبة والتجدد والدلالات العميقة.. والصياغة بتلك اللغة وبتداخل الأصوات تهب النص بناء لغويا معماريا قل مثيله بين نصوص الشعراء.

– الشاعرة تتفوق في كل مرة على نفسها وبإبهار وامتداد. وكأن نارا تستعر بين قلمها تتوهج ويزيد اشتعالها وتتقاذف ألسنتها المضيئة في محرق ذاتك وفي نيران مشروعها وتجربتها الشعرية.

– خيال جامح يتشظى يجتاح الموضوع يخترق الفكرة وبسحره يحوّلها إلى صور يتلبّسها وهي صور مكثفة، مبتكرة، معبّرة، عميقة، مترابطة، ومنسجمة، وموحية و كلما عدت إليها عادت إليك مرة أخرى مشحونة بطاقات إبداعية خيالية تزيد التلقي جملا ودهشة واستمتاعا. إنها صور تدل على حساسية شاعرية متوهجة.

– وإيقاع منفعل متدفق يتضافر كل مرة مع النص في انسيابية موائمة ونابعة من منبع التشكل السري الذي يصدر به الانفعال ويتشكل بحرا شعريا ملتحما في بناء جمالي معنوي إيقاعي عارم.
وإن من الرائع حقا والمدهش أن تلتزم الشاعرة في ظل مشروعها بالوزن الخليلي والذي به تنطلق بقوة ورشاقة ودفق شعوري عارم هائم يعيد له كثيرا من الزخم والجاذبية والتمثل وبه يقدم نموذجا لقصيدة الشعر الخليلية الطليعية في عصرنا هذا بكل هذا الاقتدار الهائل والنجاح الحافل حين يعكس التلاحم شعريا مع الوجود والحياة والذات بانسيابية موسيقية بارعة متضافرة مع عناصر الشعر الأخرى.
……………….
محمد صالح-شاعر وناقد بحراني

………………

النص:

لم أتقن قراءاتي .. ريم سليمان الخش
مسرحية غنائية
بين ثائر عربي وملك الموت
ملك الموت:
ماتوا جميعا !!
الثائر:
ولم تخطء نبوءاتي!!

فليعلن الصور ميقات القيامات!!

.
دمي المشظى!..أنا روحٌ بلا وطنٍ
لم أتقن الحبّ لم أشبع عشيقاتي!
ملك الموت:
هل تخبر الله؟
الثائر :
أخشى أن أبوح بما
يعذب القلب…
ملك الموت:
من نقص المروءات!!

.
الثائر:
النار مالنار ؟ لسعٌ في ضمائرنا!!
النار موطنها كنهي!..خطيئاتي!

.
وأغلبُ الظنّ أن النفسَ إنْ فسدت
تضرّم اللفح من إيحائها الذاتي!!
ملك الموت:
علامَ تخشاه ؟..مانوع الجريمة ؟ ما
يُبقي انفعالك حكرا للمعاناةِ!!

.
أتندم الآن ؟؟…من بعد الذي!!(…) ولقد
جاء امتحانك منقوص العلامات!!

.
حدث لأعلمَ ماتخفي لموعده
مايوقع القلب في شِرك الندامات!!
الثائر :
كنّا عراةً وكان العشق سترتنا
وكنتُ أرعشُ طفلا في المتاهات!!

.
وكنتُ أقصدها كينونةً ..أفقا
به كبرتُ به كانت بداياتي!

.
عنقاءُ موطنها في الغيب مابرحت
تطالب النفس مابعد النهاياتِ

.
فرحت أعزفها قيثارة ولها
سالت حروفي واستنبطتُ نوتاتي

.
وقمتُ أبعثها في نطفة نطقت
حتى تبلغها أسمى الرسالات!!

.
ومضاءُ شعلتها من وجه من سطعوا
ليكشفوا العتم عن أعتى انحدارات!!

.
وكنتُ أُقرِؤها نفسي مخضبةً
برغبة الدمّ في قهر المشيئاتِ

.
شمّاء قامتها كالنخل شامخة
تمرٌ بسرّته كلّ الملذات

.
حمراءُ إنّ لها صدرا يُزلزلني
عشقا يُشاطرني نزفي ولذاتي

.
لكم سقانيَ مالم يُسقَ عنترةٌ
لكم تفنن في لون احتواءاتي

.
لكم تحمّلَ أشواقي بلا ألمٍ
جوعي مشاكستي ..ضعفي ولعناتي!!
ملك الموت :
لكنّها انتفضت مذْ خنت عالمها
مذْ صار بينكما حشدُ الولاءاتِ

.
علام قد تُركت في خدر مغتصبٍ!!
للتيه متعته !!دون ارتباطات!!

.
علام تمنح ما (…) وغدا بلا ذمم!!
هل هنتَ يا (…) أولم يخذلْك بالآتي….
الثائر :
باتت تعذبني سفحا تلازمني!
تمتص أوردتي وتريقُ لاءاتي

.
لم يبقَ للقلب شرْيان لتقطعه!!
لم يبقَ للجسم أخدود لراحاتي!!

.
عانيتُ عانيتُ حتى صرتُ مبتذلا !!
كانت تمتعني فوق احتمالاتي!!!

.
كانت تذوّبني حبا فخفت بأن
أبقى بلا جسدٍ
ملك الموت :
عته الحماقات!!
الثائر :
كانت معنّفة كالوحش تقضمني
حتى اخترقت مجرّاتٍ بآهاتي!!

.
أنثى مقدسة بالعشق تصهرني
حتى صبأت ولم أكمل صباباتي!!
ملك الموت:
لقد هربت إذن؟؟
الثائر :
كانت ستقتلني!!
ملك الموت:
كلّ بإمرته …كلّ بميقاتِ !

.
هذا وربيَ هتكٌ في إزاركما
هذا انتحارٌ وخرقٌ للأماناتِ

.
العمر مالعمر إلا ومضة صُرفت
حبا ولذته مثل الخرافات!

.
والعشق قبضته كالنار لاسعة
لكنْ صلابته فوق الحسابات

.
كم سار خلف اتقاد العشق رهطكمُ
وعاد منهزما دون انتماءات!!

.
أن ليسَ يبلغ فحوى الكون منكسرٌ
وليس دون أذى سبر المجرات!!
الثائر :
مازلتُ أرغبها ..
ملك الموت:
تخشى غوايتها
كعابد ضلّ من فرط الدلالات!!

.
هذا امتحانك
الثائر :
صعبٌ مانجحتُ به !!
أنا الضعيف أنا جهلُ المجازات!!

.
ملك الموت:
هل تخبرُ الله؟
الثائر :
لم أحفظ أمانته …
لم أفهم العشق..لم أُتقن قراءاتي..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى