الذات الشاكية في ديوان: (أشجان الغرباء) للشاعر زيد الشهيد
أ.د مصطفى لطيف عارف | ناقد وقاص عراقي
أنَّ الذات الشاكية عند الشاعر (زيد الشهيد) هي ميلٌ فطريٌّ عنده يلتجأ إليهِا عند شعوره بالألمِ أو الحزنِ أو اليأسِ, وما يرافقُ ذلكَ من إحساسٍ بالاضطهادِ أو الظلمِ والاضطرابِ في الحياة الاجتماعية ,والسِّياسيَّة ,والفكريَّة, وتقترنُ الذات الشاكية بتعقُّد ظروف الشاعر, وحاجتهِ إلى أن يخرج هذا الشُّعور في سبيل دفع الظلم الواقع عليه من الأفراد أو المجتمع, والذات الشاكية هي عاطفةٍ إنسانيةٍ ناقمةٍ تنشأ لدى تعقُّد ظروف الشاعر الحضارية وتطورها, إلى الحدِّ الذي يعجزُ فيه عن ملاحقتها والتَّحكم فيما تجرُّهُ عليه من ظلمٍ وانعدام فرص العدل, تتعرضُ فيها الذات ما تعانيهِ من ظلمٍ وألمٍ وحرمانٍ تبعاً لانعكاسات تلكَ الظروف, فهي أشبه بالقوة القدرية الموجَّهة نحو الشاعر,
ولكنَّهُ لا يستسلم لها بل يردُّ عليها ردَّاً عملياً عبر لغتهِ الشَّاكية, إلَّا أنَّ هذا الرَّد لا يأخذُ وجهاً واحداً فقد يكون ثائراً متمرِّداً يدعو بصورة ٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ إلى تغيير الواقع والثَّورة عليهِ وهو غايةُ ما يصبوا إليه, وقد يكون هذا الرَّدُّ خانعاً مستسلماً لا يطمحُ إلى أبعد من عكس أوجاع نفسهِ والتَّنفيس عمَّا يعانيهِ الشاعر (زيد الشهيد) ,يبث شكواه,وأنينه في شعره الرائع,وفي الحالتين كلتيهما فإنَّ الذات الشاكية لا تعدو كونها محاولةَ تأكيد نزوع الشاعر إلى ذاته والتَّعرُّف عليها, فنراه يقول:
قد اكتوي بشوك وردك البري
واحضن اللظى قد أستحيل شارعا ينتظر
قوامك الشمعي لكي يضاء بالبهاء
قد اطوي الحلم الذي يضمنا
فارجم الليل بالنجوم الراقصات
وادخل الفردوس من باب خال خدك الشهي
واترك الحزن الثقيل
إنَّ الاعتداد بالنَّفس عند الشاعر يولد شعورٌ يدفعُ الذاتَ الشَّاعرةَ إلى أن تتموضع داخل مخابئ نفسيَّة ومسارب ذاتية تقومُ بالتَّقاطع مع المجتمع بانفعالاتٍ جدليةٍ يحكمها الزَّمنُ الذي يرمي بحممهِ على وعي الشاعر (زيد الشهيد) في صراعهِ مع القوة القاهرة , ومن ثَمَّ انهيارها أمام القدر المحتوم , ومن خلال هذا الوهج النَّفسي تتوالد عملية التَّعويض النَّفسي التي تتمثَّلُ بعملية خلق توازنٍ لعذاب النَّفسِ الشَّاعرةِ في صراعها الدَّفين, وإصرارها على أنَّها صاحبةُ الحق المسلوب في خلق شخصية ذات مكانةٍ رفيعةٍ بعيدة عن حياة الضعفِ والاستكانة وهو يصور صورة مأساوية لوطنه العراق, فنراه يقول :
أدري ……
وأدري…..
وأدري …..
لكن الذي لا أدريه هو :
لماذا كلما ضحك العراق تفجرت السكاكين ثارا,
واستبدت فكرة لبغض الدفين؟
لماذا حيثما شرب العراق مياه جنته البهية
تنادهت الضباع,
وعم ليل الحقد في مضارب الوجه
وأعلن الجهاد على السعادة ؟!
وتمتازُ الذات الشاكية عند شاعرنا المبدع (زيد الشهيد) بصدق التَّجربةِ والابتعاد عن الكذبِ والمداهنةِ ؛ لأنَّها تصدرُ عن نفسٍ مرهفةٍ اتَّجهت صوب اللغة في عرض شكواها لتكون هي الفيضُ الشِّعري الذي يعبِّر عن لسانِ صاحبهِ,ونلحظ عنده تردُّد نغمة الحزنِ الشَّاكية أنَّها تصدرُ عن ذاتٍ متألِّمةٍ أرهقتها ظروفُ الزَّمانِ وانكساراتهِ المتتابعة؛ لذلك كانت رؤية الشَّاعر(زيد الشهيد) لشَّكوى الذات تجمع بين نوعي الشكَّوى العامة, والخاصة الأمر الذي لم يحِدْ عنهُ الشَّاعر، فكانت شكواهُ ذاتيةً حيناً وعامةً حيناً آخر , فهو يتحسَّرُ ويؤنِّبُ ذاتَهُ حينما يراها عاجزةً عن بلوغ أهدافها, فيُفصِحُ عن حزنهِ وشجنهِ على النَّحو الذي يكون فيه أصدق تعبيراً عن ذاتهِ ووجدانهِ, وما يختلجُ ذاتهُ من حقائق، لذا نجدُهُ يبتعدُ عن التَّصنُّع ؛ لكي تجيء شكواه عفوَ الخاطر, وتُظهرُ لنا عميق مشاعرِهِ ,وعواطفِهِ الحزينة , فنراه يقول :
أيها المطر..تعال إلى بيت حزني
واطرق باب ذهولي …
فانا ابكي ..
تعال!
أعددت لك قهوة انتظار
بفنجان شهور تحلم بقدومك
أعددت لك حديثا ذا عتاب
أيها المطر لا تصدق بكاء
من يبعثون إليك برسائل اليباب
لقد تخلَّلت الذات الشاكية عند شاعرنا المبدع والرائع (زيد الشهيد), وقد تجسدت في أعماق قلبهِ, لتظهر في شعرهِ وهو يتَّحد مع الأنا التي تُعبِّرُ عن ذواتٍ فرديةٍ أخرى تظهرُ لنا بصورةٍ جليَّةٍ من خلال النصوص الشعرية, لتعلن الذات الشَّاكيةُ عن موقفها الذي يمتلئ أسىً وتوجُّعاً, وتُرغِّبُ فيه الاحتكام إلى الأفعال الثَّوريَّة؛ لأنَّ غاية الذات أن يترك هذا الجيل تقوقعه وانحناءه على نفسهِ ومصارحتها بما فيها من مصادر الضعف والخمول, على أنَّ النَّص لا يخلو من بثِّ روح الأمل والتفاؤل الذي يُوحِي إلى التغيير, والتعبير عن شكوى الذَّات في النَّص الشِّعري, وجعله نسقاً منعزلِاً عن الآخر كما نلحظها في أثناء مناجاةِ الشاعر لنفسِهِ وغنائيتِهِ الدَّاخلية ؛ إذ لا يُمكن النظر إلى تجلِّي الذات متجرِّدةً عن الآخر, فإنَّ من المُحال أن يبرز الآخر في النَّص الشِّعري بعيداً عن الذات؛ لأنَّ الذات تُشكِّل المحورَ الرئيس في العلاقة الثنائية بينها وبين الآخر لتتمظهر في النَّص من قريبٍ أو بعيدٍ فهي التي شكَّلت هذا الآخَر بل هي التي خلقتهُ في النَّص, وأقامت علاقتَهُ مع غيره, بحيث يركنُ الشَّاعرُ (زيد الشهيد) إلى الوصفِ في عرض فكرتهِ, إذ تضيق شكواهُ حول ذاتهِ , وتتموضع حول القُيُودِ التي فرضتها الظروف عليهِ مع حاجتهِ الماسَّة إليها, لنجد أصداء ذلكَ في أحناء نفسهِ التي تحاولُ جاهدةً أن تُوليَ الجانب الشِّعري جزءاً من اهتمامها بالظروف, خاصة وأنَّه قد وعى مشاكلَهُ الذاتية وحاجتهِ إلى إثراء شعره بالحداثة الأمرُ الذي لا يجد معه الشَّاعر بُدَّاً من بثِّ شكواهُ والتَّعبير عنها من خلال عدَّة أمورٍ تُظهر الجانبَ السِّلبي للمجتمع الذي يعيشه فيه , فهي صورة مريرة تُفضِي بصاحبها إلى الالتزام وإلى الحدِّ من بعضِ هوايات الذات ، وغير ذلك من الأمورِ التي ينطلق فيها من رؤيةٍ ذاتيةٍ تُحاولُ تعليل قلَّة كتاباتهِ الشعرية , وبيان بعض ممَّا أودع في نفسهِ من تأنيبٍ وقصورٍ ,فنراه يقول:
فلأني احبك يا وطني
وأحب ذكرياتي السائرة حفرا
على ساعديك كما وشم حجري
يحكي تعلقك بي , وشوقي إليك !
يوم أرفعك لافتة خضراء
بصارية العاشقين
وأقول : يا وطني , لا تهن !
ستفر جرذان البائسين الراكعين
عند قدمي جارحيك وطاعنيك
وسابكي دمع عينيك أسفا
على أولادك الراتعين
بحليب الغرباء
أنَّ الوعي الوجداني بالذات لا يتم بطريقةٍ ذاتيةٍ , كما لا يتم بناؤها وتطويرها إلَّا من خلال ” الآخر ” بإدراكه والوعي به , وتفسير دوره , والصراع المستمر معه, سواء أكان ذلك ” الآخر ” حقيقةً أم خيالاً, ومهما كان بعيداً أو قريباً, إنَّ ثمَّةَ أواصرَ متجذِّرةً تجمع بين الذات والآخر, وتَجلي حقيقة كلٍّ منهما , فالموازنة بينهما تُصبِح بمنزلة مرآةٍ قد تكون أداةً وسبيلاً للتعارف والتجاوز , فالآخر طريقٌ إلى الوعي بالذات بقدر ما يُوقِظُ الذات على حقيقتها , ونحن حينَ ننظر إلى الآخر نرى فيه الجانب المغاير والمختلف , ولذلك قد ننكفئ إلى ذواتنا فنحتمي بخصوصيتنا , وتعترينا حالةٌ من النرجسية أو نعود إلى نرجسيتنا الأصلية حينَ تكون العلاقة بالآخر علاقة تحدٍّ ونفيٍ , فالنظر إلى الآخر إنَّما هو اختراقٌ للذات؛ إذ إنَّ الآخر قد يمثل الجدِّية , فيبهرنا بغيريتِهِ, وتجذبنا حقيقتُهُ , ويدفعنا إلى التماهي معه , ولذلك فإنَّ الموازنة معه قد تُفضِي إلى التجاوز ومن ثَمَّ إلى التعارف والائتلاف, إنَّ تضخُّمَ الذات وسعيها إلى نفي الآخر, غدت من السمات المترسِّخة في الخطاب الشِّعري, ومنه تسرَبت إلى الخطابات الأُخَر, ومن ثَمَّ أصبحت نموذجاً سلوكيَّاً ثقافياً يُعاد إنتاجه ؛ لكونها قيمةً نسقيةً منغرسة في الوجدان الثقافي,وهي ما تسبَّبت في إحداث انقسامٍ بين الذات والآخر في الميدان الشعري الذي يؤكِّد على تلازُم الذات بالآخر في إشارةٍ إلى عدم تمكُّن الذات من تقوقُعِها على نفسِها واحتفالها بنرجسيتها وهو ما يماثل رأيَ هيغل الذي يُشير إلى أنَّ الفرد يكتشف “الأنا” الخاصة به ليس عن طريق الاستبطان, بل عن طريق الآخرين في سياق عملية الاحتكاك والنشاط منتقِّلاً بذلك من الخاص إلى العام, إذن ثمَّةَ جدل قائم بين الأنا وذاتها من جهةٍ , وبينها وبين الآخر من جهةٍ أخرى, فالأنا تتحدَّد في متكلمٍ بعينه على المستوى اللغوي , وعلى المستوى السيكولوجي, تتحدَّد عبر حالات الوعي الذاتي من خلال بوابة اللغة التي هي أوجب الأفاعيل الوجدانية؛ إذ يتم بوساطتها وعي الإنسان لذاتهِ , أمَّا الآخر فقد يتموضع في ذواتٍ أُخَر تكون مرآةً لأناة , وقد يتحقَّق هذا الآخر في الذات الإلهية أو في العالم الطبيعي بما يشتمل عليه من كائنات وظواهر على نحوٍ يُبرز التفاعلَ بين الأنا وذاتها أو الذات وذواتٍ أُخَر أو بينها وبين العالم , وفي نصٍّ آخر يرتدُّ إلى ذاتهِ لتأتي شكواهُ صادقةً يكتنفها عنصرُ الصِّدقِ مع الذات ليعبر الشاعرُ (زيد الشهيد) فيها عمَّا يجدُهُ في نفسهِ من آلامٍ وعواطف إنسانيةٍ حزينةٍ تكونُ مرآةً لحقيقتهِ النَّفسيَّة, فنراهُ يقول:
وطن تركناه حافيا يصارع
لظى الرمال وقلنا له :
خذ حقك من العذاب
ساديون نحن أبناؤك , يا وطني
مازوشيون
نعشق الآلام المراقة على أهدابنا
ونحتفي نأكل الأنين الدافق
من قلوب أمهاتنا فننتشي
وطن جعلناه لا يغفو
إلا على ناي الدهور الحزين
لقد بدأ الشاعر (زيد الشهيد) في نصِّهِ الشِّعري يتمظهر في نوعٍ من الحوار والحوار الأعمق بين ذاتهِ وذات الآخر, وهو حوار من شأنِهِ أن يعمل على تشخيص النقائض والمختلفات التي يتألف منها الوجود الإنساني , فكان نصُّهُ الشِّعري مزيجاً من الداخل والخارج, الخاص والعام المرئي واللامرئي , الواقعي والشعري ,ويحاول أن يُجلي تمظُهرات الذات والآخر, وتمركُز الآخر وازدياد حضوره في مواضعَ معينةٍ ليعكس اهتمام الذات به وتوافقها معه ؛ إذ إنَّه يصدر عن تجربةٍ شعريَّةٍ لها مسوِّغاتُها نحو الآخر ولذلك فهو من فرط حبِّهِ له وولعه به , نراه يبسط له جانباً كبيراً من عواطفه واهتماماته ليجعله يتمركز على حساب الذات, وطبيعة الخطاب هنا يكون محمَّلاً بالفقدان والصدِّ والتوق إلى الامتلاك, وأحياناً أُخَر تكون الذات مرآة له يقوم بتشذيبها , ويستعرض فيها ما يتخلل ذهنه من أفكارٍ ورؤى , ولذا فإنَّ الذات هنا تحتلُّ نسبةَ المركز قياساً إلى الآخر الذي يكون حضورُهُ مكمِّلاً لصورةَ الذَّات بما يُحقِّق صورةَ التَّلازم بين الذات والآخر, وبمعنى آخر يكون للآخر حضور نسبي يستدعي وعياً من الذات بدلالة وجودِهِ في المشهد الشِّعري إذ يتدخل هذا الآخر بأشكاله المختلفة في الضّغط على جزءٍ من الذات المتداخلة وتوجيه وعيها نحو الآخر ,وأخيرا نقول بان الذات الشاكية عند شاعرنا الكبير (زيد الشهيد) أنَّها انمازت بلغةٍ صادقةٍ , وغلبَ عليها الطَّابعُ الذَّاتي , فهي خلاصةُ الأفكار والرؤى التي تُجسِّد نظرةَ الذات إلى الأشياءِ والحياة معاً , والرَّغبة في حرية تَّعبير الذَّات عنها على وفق ما كان يعتريها من مشاعرٍ وإحساساتٍ صادقةٍ.