شهريار غسان عبد الخالق والمواطن المطحون في رحى الجشع

أمين خالد دراوشة | فلسطين

لعبت الرواية التاريخية في الأدب العربي دورا بارزا في تحقيق أهداف سعت إلى بلوغها، فهي هدفت إلى بث الروح في الماضي من أجل قراءة الحاضر واستشراف المستقبل والاستفادة من عبر التاريخ.

وإذا كان التاريخ يعرف بأنه: الأحداث والوقائع التي وقعت في الأزمان الماضية. فالرواية التاريخية كما يعرفها الدكتور محمد القاضي، هي “نصّ تخيّلي نسج حول وقائع وشخصيات تاريخية”.(1)

أما عند الكاتب سعيد يقطين فالرواية التاريخية هي: “عملا سرديا يرمي إلى إعادة بناء حقبة من الماضي بطريقة تخيّلية حيث تتداخل شخصيات تاريخية مع شخصيات متخيلة”.(2)

فالمادة التاريخية تحضر بقوة في الرواية التاريخية، ولكنها غير جامدة بل تقدم بطريقة فنية وإبداعية، لذلك الذين درسوها يلجئون إلى المقارنة بين السرد التاريخي والرواية التاريخية مفرقين بينهما من جهة الحقيقة والخيال. فالسرد التاريخي يقدم الحقيقة ويسرد الأحداث المطابقة للوقائع، بينما الرواية التاريخية أقرب إلى التخيل والإبداع.

واعتبرت الدكتورة هالة فؤاد إن الرواية المتعلقة بالتاريخ والمتصلة به هي: “أكثر النصوص الروائية وفرة وكثافة في مساحات التخيل، وحدة المباغتة، وعمق الالتباس، وثراء الحيرة والدهشة العارمة المثيرة”. (3)

أما الناقد جورج لوكاتش فعرفها بأنها: رواية تاريخية حقيقة، أي رواية تثير الحاضر، ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق”. (4)

فهي عمل أدبي فني مادته التاريخ، يوظف فيها الكاتب رؤيته وتجاربه لتحقيق غاية يسعى ورائها.

فكلّ نصّ كما ينقل القاضي عن رولان بارت هو: “نصّ جامع تقوم في أحنائه نصوص أخرى في مستويات متغيّرة، وبأشكال قد نتعرفها إن قليلا أو كثيرا: هي نصوص الثقافة السابقة، ونصوص الثقافة الراهنة. فكلّ نصّ نسيج طارف من شواهد تالدة”. (5)

أما في الواقعي حسب سعيد يقطين فالمرجعية هي: ” تزاوج بين المادي الملموس الذي يمكن التثبت منه من خلال بعض المؤشرات الدالة عليه، والتخيلي الذي يمكن أن يثير الالتباس لدى القارئ فيتولد لديه الإحساس بأن ما يقرأ لا علاقة له بالتاريخ، وأن الإطار الموظف هو فقط ذريعة أو علامات على صلة الحدث بما وقع أو ممكن الوقوع أو محتمل”. (6)

إن ” الإيهاميين بالواقعية والتاريخية هو موئل المفارقة التي أومأنا إليها، وهي جوهر الإبداع السردي الذي يتحقق من خلال فعل “التخيل” حيث كل رواية تقدم شيئا، وتوحي لنا بأنها تقدم غيره، وإن حصل وانتبهنا إلى ما يفيد العكس، كان الجواب “الفني”” (7): لا ريب أن ذلك يرجع للصدفة أو القصد.

يعدُّ كتاب ألف ليلة وليلة من أنجح الكتب الأدبية عبر التاريخ، فقد حقق لنفسه ما يصبو إليه الكاتب وهو الخلود، يُقال إنه ليس من تأليف مؤلف واحد، بل مجموعة من المؤلفين، وتأثر به الكثير من الكتاب العالميين والعرب، لإسلوبه الساحر، ولغته المتدفقة.

ويحكي قصة الملك السعيد شهريار، الذي تعرض لخيانة من زوجته، فأصابته حالة كره لجميع النساء، وحاول الفرار من جحيم الفكرة، بترك البلاد، ولكنه في رحلته يتعرف على جني كان يخبئ زوجته في قفص زجاجي خوفا من خيانتها، ومع ذلك كانت قادرة بدهائها على خيانته، فيقرر العودة إلى مملكته، والزواج كل يوم من واحدة وقتلها في الصباح، وعندما سمعت شهرزاد بذلك، وهي الفتاة بارعة الجمال، وذات الذكاء المتقد، قررت المخاطرة وحماية بني جنسها، فتزوجته، رغم اعتراض والدها الوزير عند الملك، وكانت كل ليلة تحدثه عن قصة تتناسل إلى قصص عديدة لتزرع في نفسه حب معرفة المجهول والتشويق اللذيذ، حتى تنجح في تغيير رأيه بالنساء.

في البداية كتب غسان عبد الخالق قصة شهريار، ثم تراءت له فكرة جديدة، فقرر إعادة كتابة القصة على شكل قصة مسرحية، إذ طور فكرته، وأسقط الكثير من الأفكار على الواقع المر للشعوب العربية.

ولأن العالم العربي يعيش في المقلوب، فإن شهريار جاء كفتى لديه أحلاما كبيرة، تكسرت على رأسه في غرفة شهرزاد، فمن ذاك المجنون الذي يرفض النوم بجانبها، وهي التي يحلم بها الرجال ويتمنون وصلها، وهي التي تبحث عن استمتاعها في الحياة بالطريقة التي تحددها هي.

شهريار شاب بلغ الثامنة عشرة، تملكته حكايات الشطّار، فقرر السفر إلى دار السلام (بغداد)، وبعد عدة أيام وجد نفسه على مشارف بغداد، وقد أحاط به مجموعة من حراس الخليفة، واختلط معهم وكأنه واحدا منهم، وتنتابه مشاعر متناقضة، فهو لم يأتِ إلى بغداد ليكون من حراس الخليفة.

أراد عبد الخالق لقصته أن تكون مميزة، فأسبغ على بطله الصفات الإيجابية، فشهريار فتى أكحل “لم يطرّ شارباي ولي ذوائب، قد حباني الله حسنا وملاحة، حتى خشي القوم على نسائهم الفتنة، ورفعوا أمري إلى مقدّم الجند فأمرني بالتلثم فازددت بهاء”. (8)

وبينما هو واقف في مناوبة الحراسة، جاءه غلام مقدّم الجند وبصحبته جارية جميلة، وطلب منه بناء على أوامر مولاه أن يسير مع الجارية حيث أرادت ولا يعود إلا بعد أن يؤذن له.

يسير مع الجارية حتى يخرجا من بغداد، وعندها يسأل الجارية: إلى أين تأخذني؟ وتجيبه قائلة: إلى مولاتي شهرزاد. يشعر بالصدمة، ويقوا لنفسه: أيقنت الهلاك. فأخبار شهرزاد انتشرت كالنار في الهشيم في بغداد، حتى إن بعض الفقهاء أفتى بالهجرة لمن خاف على نفسه الفتنة، فهي في الحسن آية، ولا تمل العين من شرب عسل وجهها.

يستخدم الكاتب اللغة المناسبة لعصر القصة، يقول على لسان شهريار: “ولم أدرِ إلا وأنا بإزاء قصر مهيب، على أبوابه حرس وحشم، وفي أرجائه غلمان وخدم، بلاطه مفروش، ورياشه عروش”. (9)

يدخل عليها وهو يرتعد خوفا من هيبة القصر، وسحرها الأخاذ. ولكنّها تستقبله بابتسامة، وتطعمه وتشربه، وتأمر جواريها أن ينظفنه ويحممنه، ويأتوا به إلى مخدعها.

تقو له: هل لك في الوصال؟

حاول الهرب من الإجابه، بقوله: لا يكون الوصال إلا بعد السمر، فيأخذ يحدثها بالقصص حتى نامت، فغطاها، وذهب إلى غرفة أخرى ونام. شهرزاد لا تتركه وهو لا يكف عن المسامرة هروبا من إغوائها الذي لا يقاوم.

وفي ممر في القصر، تظهر امرأة، وتعرض عليه أن تقوم بتهريبه عبر سرداب سري في حجرتها إلى طريق بغداد.

يهرب من حُسن شهرزاد الطاغي، لأنه فتى صالح، وهي المرأة الشقية والشبقة التي تبحث عن اللذة المحرمة.

وبعد أن تعرف بهروبه، تخاف الفضيحة، وكلام الناس، وهي المرأة المتسلطة التي تملك كل أسباب القوة، فتأمر جواريها وحراسها ببث الإشاعات، وتلفيق الأخبار حول شهريار، فهو المموك الخائن، الذي لا همَّ له إلا مطاردة النساء، والذي اختطف شهرزاد عدة أيام، واستطاعت بفطنتها وذكائها ومن خلال إشغاله بروي القصص أن تحمي نفسها وتمنعه من الاعتداء عليها، حتى استطاعت الإفلات منه والهرب صوب القصر!

وكعادة العرب، انتشرت الإشاعة مع الريح، وزيد عليها الكثير، فإن الناس حرّفوا وبدّلوا في الحكاية المختلقة حتى توهم الناس إنها حقيقة.

حكاية شهريار تروى بالبلد الواحد عشر روايات، ويتسأل الكاتب عبر بطله: كيف توهمها الناس، وكيف تقبّلها الناس؟!

هذه القصة كتبها د عبد الخالق في عام 1992م، ليعود إليها وقد نمت جذورها من جديد في عام 2000م ليضيف ويعدل لتكون قصّة مسرحيّة (شهريار والرّاوي).

فماذا أضاف عبد الخالق؟

 

الشخصيات التي باعت حلمها:

يحدد الكاتب الزمان في المشهد الأول في أواخر العهد العثماني، أما المكان فهو مقهى شعبي. بداخل المقهى راو يقرأ للزبائن “ألف ليلة وليلة” وهم مأخوذين بسحر الحكايات، وهناك نادل متحفز لتلبية الطلبات، وصاحب المقهى الذي يجلس خلف طاولته، ويرمق المشهد باستخفاف.

إنَّ اختيار المقهى كمكان له مكانة هامة، فهو يمثل بؤرة اجتماعية لها دلالتها، فهو يرمز إلى “الانفتاح الاجتماعي والثقافي، وأنموذجا مصغرا لعالمنا”. (10)

فهو المكان الذي لا يرفض أحدا، ويجتمع به الأصدقاء والزملاء، وسكان الحي في جو من المحبة والألفة، “فهو يستوعب الجميع، ويحتوي الجميع دون شروط مسبقة، و دون مواعيد مسبقة”. (11)

وعدّ بعض علماء الاجتماع المكان” امتداداً للجسد، ومعبّراً عن قاطنيه، فوصف المرء للأماكن وانتقاله عبرها يسمح له بالتعبير عن القيم الفردية والجماعية لقاطني تلك الأماكن”. (12)

ينتهي الراوي من القراءة عند نقطة معينة، فيضج الرواد، ويطالبون بإكمال الحكاية، وتحدث مشادة بين الراوي والرواد، ويتدخل صاحب المقهى مطالبا الزبائن بالحضور يوم غد لسماع بقية الحكاية، الزبائن من الطبقة الفقيرة، وصاحب المقهى لا يهمه إلا إمتلاء مقهاه، لذا لا يتوانى عن إخبارهم بأنهم يستطيعون الاستقراض منه ليأتوا إلى المقهى ويسمعوا الحكايات!

رواد المقهى، يعرفون إن صاحب المقهى شيطان رجيم، وإنه يستغلهم لسرقة أموالهم القليلة باستخدام الحكايات، بل يستخدم الحكايات لاستعبادهم.

أحد الرواد يقول: آه لو كنت أقرأ، ويجيبه آخر: آه لو كان (السُّكَّر) متوفِّرا.

ويطلب منهم صاحب المقهى المغادرة، والعودة إلى بيوتهم.

يبقى الراوي والنادل، ويشرع الرّاوي بقول الشعر:

“قل لمن يجعل همّا      إنَّ همّا لا يدوم

مثما يغني السرور      هكذا تغني الهموم”. (13)

يتدخل النادل مستفزا، ويقول له: إنك ناقم على من؟ وماذا تنتظر؟ فيجيب:

“رجلا أميّا ذا شأن يحتاج رجلا قارئا”. (14)

يحذره النادل، ويطالبه بالعودة إلى بيته، يهز رأسه بآسى، فالبيت لا يوجد به إلا زوجة وأولاد يتضوّرون جوعا.

يعود صاحب المقهى ويحذر الراوي من مغبة الاستجابة لرواد المقهى، كل ليلة حكاية واحدة، حتى يعودوا دائما، وإلا كيف ستمتلئ جيوبي بالمال؟ الرّاوي واقع بين سخط الرواد وصاحب المقهى، ولا يبحث عن أكثر من تأمين طعام أهل بيته، وعندما يطالب بأجره، يخبره صاحب المقهى إنه سيعطيه إياه بعد إكمال الكتاب، وبعد رجاء الرّاوي، يخبره إنه سيرسل أول كل شهر مؤونه غذائيه إلى بيته، ويأخذ الكتاب منه، ليحتفظ به في المقهى، يتصفحه وهو يضحك بسخرية!

في المشهد الثاني، وهو أفضل المشاهد، يظهر وجيهان بعد مغادرة الزبائن والرّاوي المقهى، يستقبلهم صاحب المقهى بالابتسام.

يسألاه عن الأوضاع في المقهى، وهل ربط الرّاوي؟

ويتحدثان عن الكيفية التي تم بها اختيارهم للرواي، فهو يعيش ظروفا مالية غاية في الصعوبة، ولم يكمل تعليمه، ولكنه خطر، فما زال يملك الطموح!

يضحك صاحب المقهى، ويقول: “الزوجة والأولاد مقبرة لطموحات الرجل”. (15)

يتبادلون الحديث حول الرّاوي والزبائن، فالرّاوي يود لو كان من المستمعين، والزبائن يودون لو كانوا رواه.

“الوجيه الثاني: “المهم أن يظلّوا مشغولين”.

الوجيه الأول: “وأن يظلّوا مديونين”.

صاحب المقهى: “كُلهم مَدْيُونين””. (16)

ويتطرق الوجيه الثاني إلى موضوع السكر: “أرجو أن لا تكون كريما معهم بالسُّكَّر، مثل كرمك معنا!”. (17)

فالقليل منه يجذبهم، والكثير منه يبعدهم.

فالوجيه الأول يقدم لمن يعمل عنده القليل من الطعام، والثاني يقدم فتات المال، ويبدي صاحب المقهى إعجابه بتفكيرهم، فمن حصل على الطعام القليل سيبقى جائع، ومن حصل على فتات المال لا يستطيع الشراء.

ويضيف الوجيهان: إحداهما يحلم بالاكتفاء والآخر يحلم بالحرية. يقول صاحب المقهى: نحن قبل أن يعدل كلامه، أنتما من يضعا حدود الاكتفاء والحرية، فيحذراه من اللعب معهما لأنه يفهم قوانين اللعبة، فالمقهى تعود ملكيته لهما، يستأذن بالانطلاق معهما، فيقول له الوجيه الأول: “نأذن لك ما دمت مفيدا…ومطيعا”. (18)

رغم الإشارة العابرة للزمن، إلا إنه يحيل إلى المدى الذي وصل إليه الظلم، كانت مرحلة لا تطاق بأبعاد أهل البلد عن الوظائف المرموقة، وإسنادها إلى الأتراك، وهو زمن زاد فيه الحاكم التركي استبداداً وأخذ يسطو على غلال الفلاحين، وأموال التجار والصّناع، مما أدى إلى ترك المزارع لأرضه، وإهمال الصانع لصناعته والتاجر لتاجرته، وانحدرت أوضاع البلاد إلى الحضيض، إلا من كان عينا للحاكم أو إن صح القول عبدا.

ولأنها قصة مسرحية قصيرة لم يتعمق الكاتب بوصف الأوضاع، واكتفى بهذه الإشارة للزمن، التي تدل على الأوضاع المزرية للشعب نتيجة توحش السلطات وفرضهم الضرائب الكثيرة والكبيرة على المزارعين والصناع والتجار مما أدى إلى مجاعة كبرى دفع ثمنها الشعب العربي، وكان هناك إيماءات أخرى توحي بالحالة الاقتصادية والاجتماعية لذاك الزمن البائس، الذي أصبح فيه السكر مادة نادرة غير متوفرة إلا للجشعين الذين يستغلون حاجة الناس، وغبائهم أيضا!

يقول رولان بارت: “إن السرد لا يمكنه بالفعل أن يأخذ معناه إلا انطاقا من العالم الذي يستعمله، ففيما بعد المستوى السردي يبدأ العالم، أي تبدأ أنساق أخرى لم تعد اصطلاحات السرد هي اصطلاحاتها الوحيدة من طبيعة أخرى (وقائع تاريخية، تحديدات، أنماط)…”. (19) فعالم السرد له نسقه المميز، الذي يستمد مصطللحاته من عالمه، فهو وأن عبر عن تجربة واقعية إلا أنه يبقى منفصل عن التجربة الحياتية الحقيقة، فالتجربة الواقعية التي تمثلها السرد هي مرجع في المقارنة مع تجربة الكاتب المتخيلة حول هذا الواقع.  

اهتم النقاد كثيرا بمفهومه الشخصية وأنواعها والكيفية التي قام بها الكاتب برسمها وتقديمها للمتلقي، وركزت الدراسات السيميائية خصوصاً على سيمياء الشخوص، ونبهت إلى أهمية الشخصيات؛ لأنهم من يصنعون الأحداث ويقومون بالأفعال.

فالشخصية الرئيسة لا بُدَّ لها “من أنْ تكون متميزة بوجودها وعواطفها وبنظرتها إلى الآخرين وإلى العالم المحيط بها”. (20) فالشخصية هنا تساعد في معرفة القوى التي تحرك الواقع، وتعبر عن حركة وحيوية الحياة والتفاعل فيها، فالشخصية عمود لا يمكن تجاهله.

إنَّ العلاقة بين الشخصيّة الأدبية والواقع جدلية، فالنص يقدم شخصياته وهي في شبكة من العلاقات الاجتماعية، وليست خارجة عن التاريخ، ورأى الناقد ميشيل بوتور: إنَّ الكاتب “يبني شخوصه، شاء أم أبى، علم بذلك أم جهل، انطلاقاً من عناصر مأخوذة من حياته الخاصّة، وإنّ أَبطاله ما هم إلا أقنعة يروي من ورائها قصّته، ويحلم من خلالها بنفسه”. (21)

فهل يصور الكاتب عبد الخالق بعض فترات حياته، فالأمور لم تختلف كثيرا بين زمن الحكم العثماني، وزمن الحاكم العربي الذي بقيَّ يمارس الظلم والقهر ضد الشعب، والأحوال الاقتصادية كان وما زالت هي هي فتمتلئ الدول العربية بالفقر والجوع والبطالة، والأساليب في جعل المواطن لا يفكر إلا بتوفير لقمة العيش المغموسة بالذل لأولاده لم تتغير كثيرا.

فالمواطن عليه أن يبقى يطارد حلما بسيطا لا يمكن له تحقيقه ليستمر (البشوات والبكوات…) في نهب تعب الناس ومجهوداتهم، وإبقائهم في حالة من دوامة توفير الاحتياجات الأساسية دون جدوى.

في المشهد الثالث يجمع الكاتب النادل وشهريار، يدخل رجل تبدو عليه سيماء الرحّالة القدامى إلى المقهى، والنادل يتقلب في نومه القلق، ويجب عن سؤال النادل بأنه شهريار، يتخبط النادل في الحديث بعد أن يرى الجمهور، فيقول شهريار، بأن: “هؤلاء هم الناس والتاريخ والضمير والشاهد”. (22)

بعضهم جاء ليسد وقت فراغه، وآخرون جاءوا ليذموا المؤلف والمخرج والممثّلين، والقليل سيفكر بي وبك!

يستهزأ النادل بالرجل العادي، ويقول له: شهريار! وأين هيبتك؟ ويبدأ الرجل بسرد قصته (قصة شهريار معكوسة)

ويبدى النادل نقمته على شهريار الذي فوت ليلة العمر مع شهرزاد ويصفه بالأحمق والخائب، وشهرزاد بالمراة الجريئة. قائلا: “يا أخي فهمنا…هات المفيد”. (23) ونلاحظ إن هناك عدة مستويات للغة، فكانت هناك مستوى يناسب عصر شهريار وشهرزاد وخاصة عندما يصف الكاتب القصر بفخامته، ولغة رواد المقهى والنادل الأقرب إلى زمننا الحالي.

يطالب شهريار النادل بإخبار رواد المقهى بالحقيقة، ويرد بأن “الحقيقة عدو الفقير!” فالفقير يحتاج الكذب ليستطيع العيش مع ظروفه القاهرة، يشعر النادل بالملل من الحكاية الجديدة ويذهب لينام، ويستمر شهريار بالحديث مع الجمهور:

“ولم أدرِ كيف توهّمها الناس، وكيف تقبّلها الناس؟!”. (24)

استطاع الكاتب في سرده أن يضمّن حقائق التاريخ، فتناول واقع الحياة البشرية، فهو في بحثه في الواقع، تناوله بطريقة فنية وفي ظل موقفه الفكري الذي يؤمن به ومنظوره الاجتماعي، لذلك يستعمل مهارته الإبداعية ليقدم رؤيته من خلال اللغة ليستطيع توصيل خطابه الذي يريد.

ولكي يشرح رؤيته وفكره، اضطر إلى الرجوع إلى التاريخ، ليخاطب الحاضر من خلال الماضي.

والتاريخ حياة شاسعة تمكن الكاتب من التعبير عن نفسه، فالتاريخ وما يحويه من تجارب إنسانية جمة مخزن هائل وثري للأحداث والشخصيات.

ويرجع الدكتور قاسم عبده قاسم ازدهار السرد التاريخي العربي إلى عوامل تتعلق بالكاتب والأخرى بالقارئ. ويقول أن الأسباب والعوامل الاجتماعية والسياسية التي يعيش الكاتب في فضائها، بالإضافة إلى “عوامل البنية الفكرية والثقافية للروائي نفسه ومدى وعيه بأهمية دوره والوظيفة الثقافية-الاجتماعية للرواية. وربما كان الموقف السياسي أو الأيديولوجي للروائي من بين الأسباب التي تدفعه إلى اختيار الرواية التاريخية مجالا لإبداعه”. (25) إن سمات الرواية التاريخية الجمالية، وما تحويه من مضمون عميق، أتاح لها العودة إلى الماضي والعمل على تأصيله، كما أنها حملت الماضي إلى الحاضر بعد أن أعادت فيه الحركة والحيوية والحياة والتجدد وملأته بالدلالة.

وبعد كل هذه السنوات، ما زلنا نسأل مع الدكتور غسان عبد الخالق، هل حقيقة إننا لا نستطيع العيش وسط الحقيقة، ولا بدَّ من الأوهام لكي يقدر المواطن العربي على الاستمرار في نصف حياة؟

 

الهوامش:

1- محمد القاضي، الرواية والتاريخ، دراسات في تخييل المرجعي، دار المعرفة للنشر والطباعة والتوزيع، تونس، ط1، 2008م، ص145.

2- سعيد يقطين، الرواية التاريخية وقضايا النوع الأدبي، مجلة نزوى، العدد الرابع والأربعون، http://www.nizwa.com/articles.php، بتاريخ: 22-07-2009م.

3- هالة أخمد فؤاد، “المتخيل الروائي بين التاريخي والميتافيزيقي”، في: تجارب في الإبداع العربي، وزارة الإعلام-مجلة العربي، الكويت، ط1، 2009م، ص 250-253.

4- جورج لوكاتش، الرواية التاريخية، ترجمة جواد كاظم، دار المعرفة للنشر والطباعة، بغداد، ط1، 2008م، ص 145.

5- محمد القاضي، مرجع سابق. ص 23.

6- سعيد يقطين، مرجع سابق.

7- المرجع السابق.

8- غسان عبد الخالق، لذّة السّرد، النّصوص القصصيّة ومراياها، قصة (ليال شهريار)، دار فضاءات للطباعة والنشر، ط1، 2017م، عمان، ص 121.

9- المصدر السابق، ص 122.

10- شاكر النابلسي، جماليات المكان في الرواية العربية، المؤسسة العربية للدراسات

والنشر، بيروت، لبنان، ط 1994م، ص 195.

11- المرجع السابق، 199.

12- شاكر عبد الحميد، “الوعي بالمكان ودلالاته في قصص محمد العمري”، مجلة فصول، مجلد 13، عدد 4، 1995م، ص 260.

13- غسان عبد الخالق، مصدر سابق، ص 188.

14- المصدر السابق، ص 189.

15- المصدر السابق، ص 192.

16- المصدر السابق، ص 192.

17- المصدر السابق، ص 192.

18- المصدر السابق، ص 194.

19- للاستزادة ينظر، أيمن بكر، السرد في مقامات الهمذاني، الهيئة المصرية العامة للتال، القاهرة، ط1، 1998م، ص 34.

20- لطيف زيتوني. معجم مصطلحات نقد الرواية. بيروت: منشورات مكتبة لبنان. ط1. 2002. ص 115.

21- نبيه القاسم. الفن الروائي عند عبد الرحمن منيف. كفر قرع: منشورات دار الهدى للطباعة والنشر. ط1. 2005. ص 228.

22- غسان عبد الخالق، مصدر سابق، ص 195.

23- المصدر السابق، ص 1992م.

24- المصدر السابق، ص 202.

25- قاسم عبده قاسم. “الرواية التاريخية العربية: زمن الازدهار”. في تجارب في الإبداع الأدبي. مرجع سابق. 236-249.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى