التفكيك في (أنثى المجاز) للشاعر علي النهام

د. هشام المنياوي | ناقد مصري

نص أنثى المجاز ينتمي إلى “أدب ما بعد الحداثة” وهو مصطلح ساد في الفترة من بداية السبعينات حتى أوائل التسعينيات من القرن المنصرم، حمل ايدولوجيات أدبية قوضت صرح الحداثة وتياراتها المختلفة كالبنيوية واللسانية والأسلوبية لتحل محلها التفكيكية التي تجنح إلى الخروج عن المألوف على مستوى التراكيب والأخيلة والمعجم .
(أنثى المجاز )عنوان يكتنفه الغموض، لكنه غموض يغري بالولوج إلى عالم النص والتهامه، والأنثى التي سكنت العنوان لم تكن سوى القصيدة، التي أخذت أنوثتها المعنوية من لفظها ( قصيدة) من طرف، ومن أنها وطن لكل النساء من طرف خفي. يقول الشاعر :
موحّدَ القلب جئت من دمي، انفصلت
كل النساء، وكانت وردي الديني
نص يحمل ملامح وتجاعيد الشاعر السوري اللبناني الكبير أدونيس؛ حين تماثلت الانزياحات التصويرية والاستعارية والحقول الدلالية فإذا بالغيمة
تصب في شفة الأزهار قبلتها
فيرقص العطر في ثغر البساتين
ويستحم بنهر الصور مبتهجا
سرب الفراشات بين الحين والحين
أنثى المجاز نص رسم بحرفية عالية فاستغرق كل سمات (أدب ما بعد الحداثة ) حين يدهشك هذا الغياب، ويفغر فاك المعنى الذي ما قاد إليه سابق لفظ أو تركيب
وجدتي النخلة الكبرى تعاتبني
على صلاتي ولم آت بآمين
لتكون جملة، تحمل للترميز أكثر من وجه، وللتفكيك كل تقويض، والخيال كل براح، فليس أليق من الإشارة للموروث القديم ب ( جدتي) وليس يخفى أن الصلاة إتباع، وأن عدم التأمين تحرر وتمرد، برهنت عليهما هذه النبتة اليقطينية حين قال الشاعر على لسانها:

يا جدتي نشوة الألوان تسكرني
يا العراء إذا ما جف يقطيني
انظر كيف ظفرت الأفعال ( تصب – يرقص – يستحم) بحركية الصورة، وحيويتها.
وإذا كنا قد سلمنا بأن سمات ( أدب ما بعد الحداثة) قد تحققت في النص، فإن التناص يعد برهانا آخر على ذلك، لكنه ( تناص متحرر) إن صح التعبير أقرب إلى التَّماس مع مفردات وتراكيب القرآن لمحًا من نحو: ( السنبلات الخضر – اسّاقط – انتبذت- قصيّ). ولعل من أظهر ما يجذبك في نص( أنثى المجاز) هذا التنوع المدهش بين القص والحوار، والخبر والإنشاء، حتى لكأننا في واحة غناء من فنون الأدب: شعرا ، وقصا، ومسرحة
أتذكرين صلاة الضوء نفرشها
أتذكرين دموع الوجد نسكبها
كم أنبتت شجرا في قلبي الطيني
كم سلسلت قمرا في ليل غربتنا
وعلقت وترا في نص تلحيني
ثمة حقل دلالي مقتحم، ملؤه الشجن والليل والغربة والبعاد، انتقى الشاعر مفرداته بعناية وتمحص شديدين؛ فاستبعد ( صلاة كنا نفرشها )”كما وردت في بعض نماذج النص ومسوداته” وأثبت ( صلاة الضوء نفرشها )، كما استبعد ( دموعا كنا نسكبها) وأثبت ( دموع الوجد نسكبها)؛ فكأن شاعرنا وهو يروم تصويرا حيا ماثلا للعيان قد زهد في فعل الكينونة الماضي ليكتب للخيال في النص استمرارا وحيوية، كما كان رفيقا بالمتلقي الذي أثخنته مفردات الوجع حين نزع ( علقت وترا في نصل سكيني ) وأثبت ( علقت وترا في نص تلحيني ) مكتفيا بمفردات الوجع في هذا الحقل الدلالي المتسق
أنثى المجاز سبك يأخذ من القديم إطاره بحرا بسيطا يناسب الرقة والعزوبة اللتين تشيعهما القصيدة، ويتمرد على القدماء صورا وتخييلا ليتاجر بالانزياحات التصويرية والاستعارية في تفكيك المعنى إلى معان يتلقفها المتلقي فيترجمها ترجمة ربما خالفت تراجم الآخرين وتلك غاية ( جاك دريدا) العظمى من تفكيك النصوص؛ فللمتلقي أن يفكر في علة اقتران الربيع بوجه الأرصفة!!، ومغزى أن يكون طرف الصورة الأول طفلة، وطرفها الثاني ( امتداد الضوء في عيني) !!
وفي نسبة (المجاز) للقصيدة وجوه: فهي – القصيدة- مجاز لقلوب وعقول المتلقين، وهي مجاز إذا تجافي تراكيبها الحقيقة إلى الخيال، وربما كان الفاعليات سوق (ذي المجاز) الأدبية نصيب في تفكيك العنوان.
حتى إذا وصل النص أمتاره الأخيرة توقف التفكيك وبانت أنثاه على حقيقتها قصيدة شعر تغني بجمالها وألحانها حلم الشاعر
شمسي الأخيرة قامت في الندى جملا
قصيدة وردة حلما يغنيني
أنثى من الضوء ذابت في فمي صورا
وتساقطت مطرا يروي عناويني
هدأت عاصفة التفكيك، وأوشك النص يبوح بكل أسراره فاتحدت الذات الشاعرة مع القصيدة حتى قال ( فأرويني ) في:( صوتي ويسكبني عذبا فأرويني )
سفينتي الشعر والأحلام أشرعتي
ووجهتي حيثما الموج يلقيني
بهذا الخروج بتعبير الأندلسيين يكون النص قد كتب وثيقة خلوده وبرهن على أن الشعر العمودي قادر على السير في ركاب الحداثة وما بعدها، لأنه يحمل في طياته جينات بقائه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى