الجن لا تسكن مدينتي (قصة قصيرة )

الدكتور موسى رحُوم عبَّاس | أديب سوري يقيم بمدينة الرِّياض السعودية

عشتُ في هذه المدينةِ وفي الحيِّ القديم الذي يشكِّل قلبها، شوارعه الضَّيقة التي لا تسمحُ بمرور أكثرَ من اثنين أحيانا، تضيقُ مرَّة، وتتَّسعُ أخرى، وأسطحُ المنازل متصلةٌ، وتفصلُ بينها جُدُرٌ واطِئةٌ، لا تشكِّلُ عقبة لمَنْ تضيقُ عليه الفرصُ من اللُّصوصِ والفارِّين والعُشَّاقِ. فالسَّياراتُ الحكوميةُ لا وجودَ لها، ويمكنُ لك أن تشاهدَ النَّاسَ والمخبرين وباعة الكعك معًا يطلقون سُوقهم للريحِ إذا أرادوا المرورَ أو المراقبةَ أو المتاجرةَ ببضائعهم وحلوياتهم المُغطَّاة بالقماشِ الأبيضِ، كيلا يسقطَ عليها ذبابُ حيِّنا المِلْحَاحُ. البيتُ الكبيرُ في آخر زُقاقنا له بوابة ٌعالية ٌمن الخشبِ السَّميك تتخلله المساميرُ الطويلةُ الصَّدِئَةُ غالبا والمُعشَّقةُ بالنُّجومِ النُّحاسية والأهِلَّةِ. نوافذه لا تُفْتحُ مطلقا، ولا يظهرُ منه شيءٌ سوى قمَّةِ شجرة السَّرو التي تلوحُ من بعيدٍ. كانت أمِّي تتجنَّب هذا البيت، أو تسرعُ بما يشبهُ الرَّكضَ إذا مرَّت بجانب جدرانه، وتأخذُ بتحريك شفتيها، وتمسحُ على صدرها، وهي تُنْهي بعضًا من قِصار السُّورِ. وأذكرُ أنَّني كلَّما سألتُها عن السَّبب الذي يجعلُها تمنعنا من اللَّعبِ بجواره، تقولُ لي إنَّه مَسْكونٌ، ولا تشرحُ لي أكثرَ من ذلك، وتؤكِّد أنَّه ثمَّة بيوتٌ مسكونةٌ أخرى وفي أحياءَ مجاورةٍ. في المرحلة الثَّانوية كنا نتأخَّرُ في أيام العطل بخاصَّةٍ عن العودة إلى بيوتنا، وبدأنا نحاربُ خوفنا ونتعمَّدُ التَّمهُّلَ في اجتياز الزُّقاق. أخبرني صديقي عبد البَاسِط أنَّهُ رأى النَّافذةَ مفتوحةً، وسمعَ أصواتَ غناءٍ ورقصٍ داخلَ هذا المنزلِ، وصوتَ جَلَبَةٍ لكبارٍ وصغارٍ. يرتفعُ الصَّوتُ إذا مشى من غير أن يلتفتَ ناحية البَّوابةِ الخشبيَّةِ، يتوقفُ فجأة إذا جَمَّدَ حركتَهُ ووقف كصنمٍ، ويستشهدُ بعلي أمين الذي كان يرافقه. وهو بدوره يصفُ امرأةً رآها ترقصُ خلفَ السَّتائرِ بِعَيْنٍ مشقوقةٍ وشعرٍ طويلٍ، وقد كانتْ تشيرُ إليه بيدها ذاتِ الأظافرِ الطَّويلةِ، لكنَّها اختفتْ عندما عرفتْ أنَّهُ رصدَها بعينيه. في سنواتٍ لاحقةٍ تناقلَ أبناءُ الحيِّ مَرْويَّاتٍ كثيرةً عن سكَّانِ هذا البيتِ، وأنَّهم سمعوا صوتَ بكاءٍ ونَدْبٍ وعويلٍ، فسَّرَهُ شيخُ الجامعِ أنَّهُ رُبَّما حدثتْ عندهم وفاةٌ لأحدهم، وقال إنَّ الجِنَّ يموتون مثلنا ويحزنون على فقيدهم، لكنَّ حمُّودة المجنون، اعترضَ على ذلك قائلا، “ربَّما تعرَّض ابنهم – يعني سكَّانَ البيتِ – لحادثِ سيَّارةٍ، أو اعتقلتُهُ الدَّوريَّةُ لأنَّهُ يُصَفِّرُ من دونَ إذْنٍ منهم.” وكعادةِ حمُّودة لا يلقي بالا لاعتراضاتنا على تفسيرِهِ ومُداخلاته الكثيرةِ، وحتى الشَّيخُ لا يغضبُ منه، ويسمِّيه المبروكَ. التفتَ إلي صديقي عمُّورة، وهمسَ، “كيفَ يكونُ جِنًّا وتدهسُهُ سيَّارةٌ، أويُعْتَقَلُ؟” قلتُ له، “سيَّارةُ الشُّرطة أسرعُ من الجِنِّ.” ضحكنا كثيرا، لكنَّني لم أستطعْ النومَ ليلتها، رغم إنَّني تأكَّدتُ من إغلاقِ الأبوابِ والنَّوافذ أكثرَ من مرة، وتركتُ المصباحَ مُضَاءً طوالَ اللَّيلِ، وأعدتُ تلاوةَ آيةِ الكُرْسيِّ عشراتِ المرَّاتِ.

في الحربِ دُمِّرَ مُعْظَمُ حيِّنا، وشُقَّتْ طُرُقٌ واسعةٌ للسيَّارات بأنواعها، وبقيَ البيتُ المسكونُ صامدا. هربنا مثل الآخرين إلى كُونستانز هذه المدينةِ الجميلةِ في الجنوبِ الألمانيِّ قريبًا من الحدودِ السُّويسريَّةِ، نستمتعُ ببحيرتها الصَّافية. أبي يقول إنَّ أسعارَها رخيصةٌ، والحياةُ هادئةٌ. حتى صديقي عبد الباسط وأهله يسكنون المدينةَ نفسَها، وبجانبهم تمامًا بيتٌ كبيرٌ بطابقين وقرميدٍ وبوَّابةٍ خشبيةٍ كبيرةٍ والكثيرِ مِنَ الأشجارِ، تمنَّيتُ السَّكنَ فيه، لأكونَ جارًا لصديقي. لكنَّه همسَ لي كعادته – لا يحبُّ رفعَ صوتِه في الحديثِ حتى عندما نكونُ وحدنا – ونصحني بعدمِ التفكيرِ في ذلك. وتحت إلحاحي على معرفة مغزى نصيحته تلك، قال، “إنَّهُ مَسْكونٌ،” مؤكِّدا أنَّ مَنْ يشغلُهُ هم أولئك الذين رآهم يرقصونَ في البيتِ المَسْكونِ في زُقاقنا الذي خَرَّبته المدافعُ. هم من هرب معنا إلى هذه البلادِ البعيدة، وثنَّى صديقنا عليُّ الأمين الآخر على كلامه. عندما اتصلنا به نسألُهُ عمَّن بقيَ من حيِّنا، أجابَ ضاحكًا، “حتى البيتُ المَسْكُونُ لم يَعُدْ مسكونًا، بل فُتِحَتْ بوَّابتهُ ونوافذهُ وأخذَ يغصُّ بالأولاد والنِّساء للعائلةِ الجديدةِ التي اتَّخذته منزلا لها، رغم أنَّنا لا نتفاهم معهم إلا بالإشارةِ.” 

كتبتُ لمُدرِّسةِ اللُّغةِ الألمانيَّةِ موضوعًا للتعبير، افتتحته بالفقرة االتالية:

“نحن في الشَّرقِ نعيشُ معا، الجِنُّ والإنْسُ، نأكلُ ونشربُ معًا، يلاحقوننا في الظَّلام، يُصَفِّرون أحيانًا، وقد نعتقلُهم، ونطردُهم، ليعيشوا في الخرائبِ والكُهوفِ، ورُبَّما منعنا عنهم الضَّوء، فهم يُحِبُّون الظَّلامَ ولا يخافونَ منه.”

سأحملُ حقيبتي المدرسيَّةَ، وأسرعُ إلى درَّاجتي، لألتفَّ حولَ البُحَيْرةِ في طريقي إلى الشُّقةِ التي مُنِحتْ لنا، وأنا أصُفِّرُ لأوَّلِ مرَّةٍ من دون خَوْفٍ، بينما مُعلِّمتي ما زالتْ تقرأُ موضوعي وهي تُصَفِّرُ لَحْنًا لا أعرفُهُ أيضا!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى