ثقافة التسامح.. تراث أصيل وفريضة غائبة في اليمن

تحقيق: زهور السعيدي | صنعاء – اليمن

“وريقة الحناء” إحدى أشهر الروايات الشعبية في التراث اليمني وتحكي قصة فتاة يتيمة تعرضت للظلم والاستبداد من قبل زوجة ابيها لكنها لم تكن تحمل في قلبها غير الحب والتسامح وهي القيم الإنسانية التي رفعت من شانها وجعلتها تصبح أميرة للمملكة التي تعيش فيها في ذلك الزمان ومع ذلك لم تفكر يوما في الانتقام أو الاقتصاص ممن بالغ في ظلمها أيام فقرها وضعفها

هذه الحكاية الشعبية القديمة المعروفة في معظم أنحاء اليمن والتي يعتبرها بعض مؤرخي التراث الثقافي اليمني بأنها الرواية الأصلية التي اقتبست منها الرواية العالمية الشهيرة “سندريلا” مع إضافة بعض التفاصيل والأحداث الدرامية تظل واحدة من عشرات ومئات الحكايات الشعبية اليمنية التي يحتل التسامح الإنساني الحيز الأبرز في تفاصيلها وهو الأمر الذي يؤكد كما يقول الأديب والشاعر اليمني محمد القعود في حديثه لـ”عالم الثقافة” عشق اليمنيين للتسامح وتطلعاتهم الدائمة الى تحقيق هذا المبدأ الإنساني النبيل في حياتهم اليومية والخروج من دوامة الصراعات والانتقامات وانعكاساتها المدمرة على البلد واستقراره.

 

التسامح في العرف القبلي

في بلد قبلي مثل اليمن ماكان ليستقر أو يشهد نشوء حضارات انسانية ذائعة الصيت عبر تاريخه العريق مالم يكن ابناؤه يؤمنون بمبدأ التسامح والتعايش ويُعلون من شأن هذا المبدأ الانساني العظيم في حياتهم وشئونهم العامة والخاصة.

لقد كانت اليمن ولاتزال الى يومنا من أكثر الدول العربية من حيث نفوذ القبيلة التقليدي ويقدَر باحثون ومهتمون نسبة اليمنيين الذين ينتمون مباشرة لإحدى القبائل بأكثرمن 85% من إجمالي عدد السكان الذي يزيد وفق إحصائيات غير رسمية عن الثلاثين مليون نسمة فيما يشير الباحثون الاجتماعيون إلى أن أعداد القبائل اليمنية تبلغ نحو خمسمائة قبيلة ومنها ينحدر معظم أبناء البلاد وكلهم يحتكمون لأعراف وتقاليد القبيلة وطقوسها الخاصة والتي تنطوي في معظمها على قيم العفو والتسامح والتسامي فوق الجراحات والآلام.

وللقبيلة اليمنية وأعرافها الأصيلة التي تعد بمثابة القوانين غير المكتوبة حضورا واسعا في الوقت الراهن كما كان في الماضي البعيد على صعيد ارساء السلام وتعزيز الأمن الأهلي والسكينة العامة  بين القبائل وأفرادها والتغلب على كثير من التحديات والصعوبات الناجمة عن الصراعات والثارات وغير ذلك من الظواهر الاجتماعية السلبية التي عادة ماتكون من أعظم العوائق والعقبات امام استقرار وتقدم الأمم والشعوب.

لم يكن هذا الحضور المشهود للقبيلة وأعرافها التقليدية في الحياة العامة لليمنيين في التاريخ القديم والحديث ناجما عن القصور الذي اعترى الدولة الرسمية والأنظمة السياسية المتعاقبة عليها خلال العقود الماضية ومادفعته من اثمان باهضه ولا تزال تدفعه إلى اليوم جراء الانقسام السياسي والصراع المحتدم بين الساسة وانما ظل ذلك الحضور الإيجابي كما تقول الناشطة والإعلامية ياسمين علي القاضي موجودا ومثمرا حتى والدولة في أوج قوتها وتماسكها.. وتضيف الناشطة القاضي في حديثها لـ”عالم الثقافة” بان العرف القبلي ظل على الدوام الرديف والداعم الفعلي لاستقرار وفاعلية المؤسسات الرسمية للدولة وخاصة على صعيد إصلاح ذات البين وإنهاء الخلافات بين أبناء المجتمع .

ويلجأ معظم اليمنيين إلى العرف القبلي وأحكامه السريعة والحاسمة لحل خلافاتهم وخصوماتهم نظرا لما يوفره هذا القانون غير المكتوب من معالجات عاجلة ومرضية لكل الأطراف مع تغليب قاعدة التسامح وجبر الضرر وهو مالا يوجد في المحاكم والمؤسسات القانونية الرسمية التي باتت تتمتع بسمعة سيئة بسبب الفساد والتطويل في إجراءات التقاضي.

هذه الأعراف القبلية لا يقتصر وجودها وسريان مفعولها على أبناء القبائل وشيوخ العشائر وإنما تمثل ثقافة مجتمعية واسعة ويقول الشيخ/ حميد الضاوي وهو أحد مشايخ الضمان بمنطقة الحيمة الداخلية بمحافظة صنعاء بأن أي مسئول في القضاء أو الأمن لا يمكن أن يباشر النظر في أي قضية خصومة إلا بعد أن يعرض على المتخاصمين الصلح والاحتكام إلى العرف القبلي كونه أكثر نجاعة في الحسم والفصل وهذا العرض بمثابة النصيحة الثمينة للفرقاء لتوفير كثير من الجهد والمال ويشير الشيخ الضاوي لـ”عالم الثقافة ” إلى أن غالبية قضايا الخصومات يتم حلها قبليا بعد وصولها مباشرة إلى الأقسام والمحاكم بسبب مايحققه العرف القبلي من حلول وسطية تعلو فيها قيم ومبادئ  التسامح الإنساني وذلك بقناعة وتراض من قبل جميع الأطراف.

 

التسامح الديني

تميزت اليمن عبر التاريخ بأنها بلد التسامح الديني. ويقول الباحثون والمهتمون في هذا الشأن بان مظاهر التسامح الديني والعقائدي في اليمن تجلت عبر العصور في عدم المساس بأهل الكتاب الذين ظلوا يعيشون في أوساط اليمنيين ويتعايشون معهم لمئات السنين دون أي تفرقة أو تمييز عنصري.

ولم تُعرف بلد بالتسامح المذهبي بين مذهبيها: الشيعي (الزيدي)، والسني (الشافعي) كاليمن بشهادة معظم المؤرخين اليمنيين والمستشرقين والرحالة الأوروبيين.. غير أن الأحداث والانقسامات التي عاشتها البلد خلال السنوات القليلة الماضية ولاتزال تعيشها حتى اللحظة  كانت ذات طابع سياسي وانعكست تداعياته على طبيعة التسامح الأزلي بين المذهبين الرئيسين في البلد ناهيك عن التسامح المعهود مع الأقليات من معتنقي الديانة اليهودية والذين لا تتجاوز أعداهم المئات ويتواجدون في منطقة ريدة شمال محافظة عمران على بعد 120كيلو مترا شمالي العاصمة صنعاء وكذلك القليل من النصارى في عدن وبعض الطوائف الدينية الصغيرة مثل أبناء الطائفة الإسماعيلية والبهائيين ممن ظلوا لعقود طويلة يمارسون طقوسهم وشعائرهم الدينية والعقائدية بكل حرية قبل أن تعصف بالبلد مؤخرا الصراعات السياسية ما يجعل من مبدأ التسامح الضرورة الأبرز التي غابت خلال الأزمة الحالية.

 

الضرورة الغائبة

الصراع السياسي الدائر حاليا في اليمن وتداعياته السلبية التي القت بآثارها الكارثية على كل مناحي الحياة العامة والخاصة كان نتيجة لغياب  ثقافة التسامح لفترة زمنية قصيرة وهو ماحدا بكثير من المثقفين والمفكرين في الساحة الوطنية الى التأكيد على ضرورة استحضار هذا المبدأ الانساني مجددا وجعل التسامح واقعا معيشا في حياة الناس ليعم السلام والاستقرار كل ربوع اليمن التي عُرفت على مدى العصور بانها بلاد العربية السعيدة

ويؤكد المفكرون والمختصون الاجتماعيون بأن اليمن في الوقت الحالي في حاجة ماسة وأكثر من اي وقت مضى إلى التمسك بثقافة التسامح سواء في المجال الديني اوالثقافي والسياسي وبالتالي توحيد الجهود للعمل في سبيل نشر وإشاعة ثقافة التسامح والقبول بالآخر ونبذ نعرات الفرقة والاختلاف ودعوات التضييق على الناس والمجتمع من منطلق أحادي وإقصائي مشيرين إلى أنه لايمكن فهم ثقافة التسامح بمعزل عن الإطار السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفكري المحيط بها بإعتبار أن الثقافة هي محصلة تفاعل مكونات هذا الإطار وما تضخه من نتائج على صعيد تكوين القوى الاجتماعية.

ويضيف هؤلاء بأن المعنى الحقيقي للتسامح يتمثل في القبول بالآخر والتعايش معه واحترام آرائه وأن يمتلك حرية الرأي والتعبير وتعزيز هذه الثقافة بين أبناء المجتمع بمختلف مذاهبهم وتوجهاتهم كونها صارت ضرورة ملحة للخروج من هذه المحنة.

وعلى الرغم من جحيم الحرب المستعرة  منذ نحو خمسة أعوام لم تغب عن هذه الأجواء الكئيبة مساعي الخير والسلام والعمل الدؤوب لإعادة الحياة إلى طبيعتها في هذا البلد المنكوب. 

وكانت ديبلوماسية عمان طوال سنوات الحرب التي عانى منها اليمنيون حريصة على الدعوة إلى التسامح ونبذ الخلافات ودعت إلى التسوية السياسية لدعم أمن واستقرار اليمن وهاهم اليمنيون اليوم يعولون كثيرا على دور سلطنة عمان وسياستها الرشيدة في إنجاح جهود السلام ومواصلة موقفها في دعم استقرار اليمن والخروج به إلى مرفأ الامان.

……….

الآراء والمعلومات الواردة في هذا التحقيق يتحمّل مسؤوليتها المراسل 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى