القدس سِرّ الجمال في عمري

بقلم: عفاف عمورة | برلين

     يكمن سر قوتي وشكيمتي طالما أرنو إلى القدس وأعيش معها بكل تفاصيل عظمتها وحضارتها وتاريخها. لأنها سر الجمال والقداسة كونها مهبط الديانات ومهد الحضارات الإنسانية.

   وفيها كنوز وأسرار الوجود الإنساني. لذلك هي سرُّ قوتي وعزيمتي وصمودي.. ولطالما كنتِ سرَّ الجمالِ في عمري ستبقين المنارة ومركز المغارة وشعاع النور ومسرى الرسول زهرة المدائن، وبهية المساكن. مدينة الله أرض الرباط إلى يوم الدين.
الحقيقة الماثلة أمامنا لا تتطلب كثيراً من التصورات والتخيّل، إذ يكفي أن يخلد المرء لنفسه ويغمض عينيه ملياً، ويطفو على سطح ذكرياته وذاكرته وماضيه ما قرأ وشاهد وسمع وتعايش عن تلك المدينة (مدينة الله) كي يشعر بالاختناق وضيق التنفس والغيبوبة، ويسعى إلى رجاء الحياة . فالحصار والقتل والسحل والعنف والكراهية سرعان ما ينتقل مما هو مادي ومرئي بالعين المجردة إلى ما هو نفسي.

    كل الذين وُلِدوا في القدس وفتحوا أعينهم على حضارتها قد لا يشعرون بذلك الضيق والاختناق، لأن لديهم منذ الطفولة من فائض الأوكسجين النقي والصافي، وفائض الحياة التي تملأ القلب والعقل والروح ما يكفي لمقاومة أي أكسيد من أكاسيد الاحتلال السامة.

لكن من وُلٍدوا في المنافي والشتات وعاشوا مأساة النكبة والنزوح وكل أشكال القهر الإنساني قد يتحوّل الوطن وحتى مسقط الرأس بالنسبة إليهم إلى حكاية،بل إلى ملحمة من ملاحم التاريخ، لكنها مبتدأ بلا خبر، وبداية بلا نهاية، لهذا ينوب العقل عن الحواس كلها ويشم تلك الروائح المشبعة بالنور والروح والبخور، وكل أنواع العطور، ويسمع ذلك الحفيف الأخضر الذي لم يستطع أحد أن يترجمه إلى أيّة لغة غير الأبجدية بأحرفها النافرة والغائرة، والمغموسة بالعرق والدم.

فالأشجار أيضاً لها حواس وذاكرات تختزن الكثير، وتشم عناقيدها رائحة الأصابع الندية التي تحاول أن تقطفها، وربما لهذا السبب ولأسباب أخرى كثيرة ليس هناك وردٌ بلا أشواك تحرسه، وليس هناك ماسة دون فحم يجللها، وليس هناك لؤلؤة بلا محارة تحتضنها وتسهر عليها وتخبئها في صدفتها ودرعها المحصّن.

    أن تكون هناك أرواح هائمة في مدينة الله عليك أن تكون شفافاً وصادقاً وقوياً لمحاورتها. وأن تكون هناك أعين مفتوحة في القدس عليك أولاً أن تكون قوياً وأن تقوى على الحمولة التي ناء بها حصانك الأصيل، وأن تقرأ سطور العشب المخضوضر على خشب التابوت الجاف، وأن تفتح عينيك على سعتهما كي ترى كل شيء حولك،ترى من كل الاتجاهات كيف أنّ القداسة ترشَح منها وتعطّر الفضاء، بحيث لا يفوتك مشهد واحد ولا شعاع نور هناك أو أرواح هائمة هنا تحرس قدسيتها، وأن تفتح أذنيك أيضاً كي تصغي إلى الصمت والسكون الذي يصبح بلون الزمرد والياقوت.
ما من عربي لم تنقش حروف اسم تلك المدينة في ذاكرته وقلبه وعقله كالوشم. فهي كالبحر وأمواجه الهادرة. وهي الطود الثابت العظيم الذاهبُ صُعُدًا في الجوّ نحو السماء.
وهي سيدة درس الأرض والخصب والعطاء والجمال والجغرافيا، وبطل الدراما التاريخية منذ صيرورتها الأولى وعبر سيرورتها وصمودها، كما أنها ضيف الشرف الدائم على كل ربيع مزهر تفوح منه أمواج من العطور والرياحين، شرط أن يعلن هذا الربيع طائر السنونو وكل العصفوريات الخطافة وليس الغراب بنعيقه وسواده ، فنحن في زمنٍ أشبه بالهلامي ،زمن ضاعت فيه الحدود بين الفصول والأزمان، وهذا بحد ذاته عقاب لا رحمة فيه ، ومنفى لا حدود له، ولا إيقاعات فيه للفصول والأزمان، فهو رمادي على مدار الوقت احترق وينتظر العنقاء.
لكن ما يليق بمدينة الله الآن وهي تنزف من جدران بيوتها الصلدة، وحجارة سورها المنيع، ومحاريب مساجدها، ومنابر كنائسها، وصوت أجراسها هو الانحناء كي تمر العاصفة، إنحناء مرّةً للإعتذار ومرّةً لتقبيل الأيادي التي مكثت في جمرها واحترقت بنارها، فأن تكون هناك في مدينة القدس، مدينة الله يعني هذا أن تكون مقدسياً دون منازع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى