قراءة في ديوان “شتاء عاطل” للشاعر جواد الحطّاب
أ.د سعد التميمي| ناقد وأكاديمي – العراق
تبقى الحرب مصدرا للألم والمرارة بكل اشكالها، وقد عرف عن الشعر العراقي في ثمانينات القرن الماضي، وبشكل خاص شعراء هذا الجيل، أن تجربتهم الشعرية امتزجت بأجواء الحرب وتغلغلت مفرداتهاوموضوعاتها إلى المتن الشعري، بعد أن اكتوى الشعراء بنيرانها وتفاعلوا مع معطياتها الموجعة، فأوقدت فيهم روح التجديد ومنحتهم الجرأة في تجاوز التعامل التقليدي مع اللغة، من خلال تقديم ما هو مغاير وغير مألوف أو متوقع على مستوى المعاني، والتراكيب، والصور الشعرية، إذ استطاع هذا الجيل، ومنهم جواد الحطاب، ان يروّضوها في قصائدهم وينقلوها من سياقها الواقعي الى سياق القصيدة.
لذلك سوف يلاحظ المتلقي، وهو يقرأ قصائد ديوان “شتاء عاطل” للشاعر جواد الحطاب، كيف خيّمت الأجواء الدموية والقاتمة على الديوان، من خلال الموضوعات والمفردات والتراكيب والصور الشعرية، حيث تكشف القصائد، المعاناة والمأساة التي تخلّفها الحرب، ورغبة الشاعر في توثيق اضرارها ونتائجها شعريا، والتي تجلت في صور متنوّعة ومتعدّدة ومتجدّدة، استطاع من خلالها الشاعر ان يشحن قصائده بكل ما من شأنه ان يجذب المتلقي نحو النص، فضلا عن جرأته في توظيف المعجم الحربي ..
ففي قصيدة “يوم لإيواء الوقت” يقول
:
على الاسلاك الشائكة
تعلّمت تجفيف الوقت
لأمنع الايام من السقوط كالإبر
…
مثل شق في المساء
تلوح المقابر بمداخنها الطازجة
…
يا أجدادي المنحدرين من صلبي
يا ثمرة النسل الداكنة
لا تستنشقوا العصافير في النزهة المدلّلة
فالوقت حصى
.. وانا طباخ الايام النيّئة
من أية براعم استفهام
تسقط..
حيرتي المصابة بنقاهة متأخرة..
وكيف ..
أي غراب..
يحمل في جناحيه من الفضة
أكثر مما يحمل قلبي من دموع ؟!
فالحطاب في هذه القصيدة – كما في معظم قصائد الديوان- ينقل مفردات الحرب الى سياق القصيدة ويزجها في صور شعرية ترسم ملامحها وآلامها (أسلاك شائكة، السقوط، المقابر، دموع) لتعكس المعايشة المباشرة، في سياق تتحرك فيه بحساسية عالية وفاعلية كبيرة تجعل من المتلقي يتماهى مع اجوائها ، حتى لتصبح المفردات الحربية مثل الأسلاك الشائكة، تقف حائلا امام صموده في منع الايام من السقوط ، في صورة معبرة تحيل للحرب وآثارها، فهو يحاول اكتشاف مآسيها من خلال الصور التي تتحقق بفعل الانزياحات المتتالية مثل اضافة (تجفيف) إلى(الوقت) و(الثمرة) إلى (النسل) ووصفها بـ (الداكنة) ووصف (الوقت) بـ(الحصى) واضافة مفردة(طباخ) الى (أيام) ووصف الاخيرة بـ(النيّئة) .
فهذه السلسلة من الانزياحات التي ينتج عنها صورا معبرة، تجسّد أضرار الحرب كقوله (تلوح المقابر بمداخنها الطازجة) فهذه الكناية عن الحرب تتشكل من اسناد الفعل (تلوح) للمقابر، في صورة استعارية تعزّزها شبه الجمل المتعلقة بها (بمداخنها) فضلا عن وصف هذه المداخن بالطازجة، لتكتسب الصورة فاعلية المفارقة التي تخلقها هذه الصفة، وتسهم هذه المتعلقات في تلوين الصورة بألوان الحرب عاكسة جرأة الحطاب في التلاعب بالمفردات، وتشكيلها بطريقة تتطلب من المتلقي الوقوف والتأمل في عمق التراكيب من أجل الكشف عن مكنوناتها، للوصول الى قصدية الشاعر، وهذا التشكيل المغاير للتراكيب في القصيدة يساعد في نقل مشاعر وانفعالات الحطاب تجاه رحى الحرب التي طحنت أحلام الناس وآمالهم.
فالأجداد هم من ينحدروا من صلب الأحفاد، في مفارقة يريد من خلالها الشاعر تصوير حجم ما يحمله من هموم وأحزان، فالوقت جامد كالحصى، ويأتي توظيف الغراب بما يحمله من دلالة تشاؤمية مخزونة في ذاكرة المتلقي، ليتخذه رمزا لكل ما تحمله الحرب من أوزار تفوق ما يحمله القلب من معاناة، ويبقى هذا المعجم الشعري الذي يجسد الحرب بتفاصيلها المختلفة حاضرا في معظم قصائد الديوان ومنها قصيدة ( فضاء داخلي) التي يقول فيها
:
أضلاع النهار (المثلثة)
(تربّع) فوقها..
(خمسة) قتلى
و.. (ستّ) بيت !!
.. متى يأتي الليل القديم ، بعينه الكريمة
ونقتسم الظهيرة بالتساوي
فمنذ انبلاج المدافع
والبومة المتأملة في البعيد بزوغ القمر
تحرس :
جماجم الجنود المعلقة على الأغصان !!
فالقصيد لم تغادر أجواء الحرب بل تنقل انطباعات وأحاسيس الشاعر تجاه مخلفاتها من جروح في النفس، ولجعل اللغة أكثر فاعلية وتأثيرا، لأنّ الحطاب يميل الى شحنها بطاقة شعرية عالية يستثمر فيها سرد الاحداث تارة، ووصف الاسقاطات تارة أخرى، مما يجعل تأثيرها قويا في المتلقي، لينتج عن ذلك التفاعل والتواصل والتعايش مع النص، وهنا يستثمر الشاعر الارقام والاشكال الهندسية ليدخلها في سياق المفارقة التي تضفي على هذا التوظيف مسحة شعرية فاعلة ومؤثرة بعد نقلها من سياقها الواقعي الى سياق القصيدة، ويهيمن المعجم الحربي ليحيل إلى دلالات يريد الشاعر ايصالها للمتلقي (قتلى، المدافع، جماجم، الجنود، الرصاص) ويعزّز هذا المعجم بالمفارقات الدلالية التي تتشكل بالانزياح، لتنقل الخطاب الشعري الى فضاء التخييل والتأويل، وتتجلى القدرة التصويرة للحطاب في قوله (انبلاج المدافع) و(البومة المتأملة) و(جماجم الجنود).
فالمدافع تشير للحرب، والجماجم للموت، والبومة للتشاؤم، الا انه – وهو يستطرد في سرد صور الحرب – ، لم ينس الدعوة للحياة والتمسك بالأمل، ويتمثل ذلك في الصورة التي يضعها بمقابل التشاؤم، وهي قوله (بزوغ القمر) فضلا عن مفرد الاغصان وكلّها تحيل للأمل والحياة.
ولما كان الشاعر يحاول في كثير من قصائد شتائه العاطل، الوصول الى توثيق الحرب بمفرداتها وصورها المختلفة، كما في (الأرض، المحارب في وداعه الاخير، اختناق، شتاء عاطل) التي يهيمن عليها معجم الواقعة بطريقة مغايرة تعكس قدرة الشاعر في تفجير الطاقة الشعرية للمفردات والتراكيب.. ففي قصيدة الطوفان يوظف الشاعر هذه الحادثة الأسطورية، فيقول
:
يوم سحبنا الأرض، قليلا عن بطن الارض
رأينا النفط : سفينة طوفان
فحملنا من كل انبوبين
.. تناسلنا
حتى امتلأ المركب بالشركات
فكيف سيعرف منا الواحد اخوته
ونحن جميعا أولاد أنابيب!!
ففي هذه القصيدة يزاوج الحطاب بين السرد والمفارقة في تشكيل شعرية القصيدة، فاذا كانت الافعال (سحبنا، رأينا، حملنا) قد شكّلت قالبا للسرد، فإن الانزياحات التي ينتج عنها مفارقات دلالية تمثل بوابة يلج من خلالها المتلقي للوصول قصدية الشاعر، فضلا عن التناص الذي يتكئ عليه الحطاب بين الحين والآخر، والتناص مع قصة الطوفان في الكتب السماوية، فهو يحرّر القصة من سياقها الديني ليصهرها في سياق القصيدة الذي يقوم على فكرة ان الضرر الذي يلحق بالناس سببه النفط، ويأتي السؤال هنا ليعبر عن القلق الوجودي الذي يعيشه الشاعر، وبذلك يكون الحطاب قد نجح في توثيق الحرب في صور شعرية معبرة ومؤثرة لا تقل في فجاعتها ومرارتها عن صورتها الواقعية، حتى ليمكننا القول انه قد نجح في جذب المتلقي والتأثير فيه ليضمن تفاعله وتعايشه مع النص ..