قراءة في رواية وحيد الطويلة:(سنوات النمش)
طوال الصفحات هناك الراوي المزاجي في عزلته الأولى ومشاويره

حسام المقدم | اديب مصري
“سنوات النمش” فصول ماسية تبرق في العتمة، تشتعل نيرانها الحمراء أسخَن من وجه العمة “فريال”: (نار الفرن على وجهها، كأنها دخلت فيه او دخل فيها). هذا المقطع بالذات من الفصل الخامس البادئ بالجملة العظيمة: (يحب الرجال سورة يوسف، وتحب النساء سورة مريم، قصة يوسف بها غرام وشبق..)، قطعة جمر سردية، في صهد غيطان القطن، وملاحظ الأنفار وصلت حرارته للسبعين وراء “حمدية”، وسط اللوزات المنورة..
طوال الصفحات هناك الراوي المزاجي في عزلته الأولى ومشاويره، و”نجوى” التي ستضع كفيها على نمش وجهه وتعده حبة حبة، بعد سنوات من فعل “فاطمة”، الغناء والمواويل، الجدة التي تركت ابنها ميتا وذهبت للوسعاية لتجلس على كرسي وتُرسل مَن يُحضر لها الجوزة والمعسل، بعد ذلك ستقوم لتدفن ابنها مع الجميع!
في الفصل العشرين نرى اللغة على أصولها، لغة لابسة ثوب الحكي، أربعة في زمن الضنك، يمشون كثيرا ويتكلمون أكثر، الغواية طافحة ناحية الفاكهانية الفارعة، رفيقة المشوار المنطلقة، غواية على الألسنة والوجوه وكل الموجودات الأخرى، حتى ورد النيل الذي يعبرون فوقه حين تتعطل المعدية: (نمشي فوق سطح البحيرة، نتبختر على ورد النيل الذي غطى سطح الماء، كأننا نمشي على طريق معبد، نمشي كالأولياء، تحولَ الورد إلى صديق لنا ولم يخنا إلا مرات قيلة حين كانت وردة تغضب من رفيقها لأنه غازلَ وردة أخرى، تنسحب بعيدا عنه، تفك خيوطها من خيوطه فتنزلق قدم الواحد منا داخل الماء..).
في الفصلين 15، 16 سنجد موت عبدالناصر في صوت الناس، شكل وجوههم، وجومهم وحزنهم غير المعد سلفا، الموت بعيدا عن الكتب ومع وضد، موت حي، الراوي يجد أباه يبكي كالعيال والفوطة على وجهه، وحسني صاحب القهوة لا يصدق ويسأل الشيخ أبوالعينين: (وده هيدفنوه إزاي؟ هيحطوه في التراب زينا!)
كثيرة جدا الشخصيات الممسوسة الملموسة بالغواية والفن والخروج عن كل شيء، البرشومي عاشق الحمارتين العاليتين، والمشهد الخارق في الصفحات الأولى، مع “عطية” الخائب في الامتحان وتعليقه في الفلكة، وصراخه العابر للزمن والأجيال: “أنا مش لابس لباس يا أستاذ محمد!)..
يبني وحيد الطويلة روايته في فصول وفصوص تنمو وتضطرب من طفولة الراوي حتى نضجه: (كنت أقول دائما عندما أكبر سأصير مغنيا)، فصول لها رائحة وطعم، وبين سطورها لا تزال الجمرات الحمراء تسرح فيها ألسنة زرقاء، ألسنة اللهب والسرد والزمن والغواية.
دام الجمال، ودامت الكتابة. الكبير، والعِشَري، والمعلم وحيد الطويلة.