أدب

قراءة نقدية لأقصوصة (المجنونة) للقاصة البحرينية فاطمة النهام

علي فضيل العربي| ناقد من الجزائر

      المجنونة، قصة قصيرة، للقاصة البحرينيّة فاطمة النهام، بطلتها الفتاة (بركة)، و هي طفلة غير مرغوب ولا مرحَب لها، منذ ولادتها في أسرة شرقيّة، مازالت تسكن جوانحها عادات جاهليّة قديمة و مذمومة، تنم عن رفض الأنثى، لدرجة كراهية ولادتها، ومقت وجودها. وهي قصة (أقصوصة) اجتماعيّة، يجري حدثها في زمكان (مكان و زمان) شرقيّ، عربيّ، تدير دواليبه ثقافة مهترئة، رثّة، و توجّهه اللاعقلانيّة، باسم العادات و التقاليد الميّتة والمُميتة.
لقد وسمها والدها بـ (المجنونة)، وحاول بشتى السبل حذفها من النسيج الاجتماعي، فقد حاول و أصرّ على منعها من ممارسة فطرتها الاجتماعية، بحجة أنّها مختلة ومتخلّفة عقليا حسب الطبيب الهندي، ومثيرة للمشاكل لأطفال الحي (اقبعي في مكانك.. ستسببين لنا المشاكل) (هذا هو رزقي في الحياة .. إنّها مجنونة) .
(بركة) الطفلة البريئة المحاصَرة من المحيط الأسري، المتمثل في أبيها، حيث كان المفروض أن تجد في كنفه الحنان و المودة والرعاية والكفالة، ومن الوسط الاجتماعي المتمثل في أترابها من أطفال الجيران و الحيّ ، حيث المفروض أن تجد الصداقة و المحبة و تنعم باللعب والترفيه. (أمي ..لماذا لا يلعب معي أولاد الجيران؟) (لماذا يرفضون اللعب معي؟ لماذا يبتعدون عني حينما أقترب منهم ؟
تعكس قصة ( المجنونة ) للقاصة فاطمة النهام صورة المجتمع الشرقي، الصحراوي، الريفي، الأمي، المحكوم بثقافة الاستعلاء الذكوري على الأنوثة، والذي مازال يمقت الأنثى عند ولادتها. و يعبر وجودها في الأسرة مجلبة للعار و الفضيحة، و ينعتها بكلّ الصفات السلبيّة من أجل إلغاء ماهية وجودها و كيانها ، كالجنون والنقصان في العقل و الدين. وهو اعتقاد ساد عند بعض القبائل العربية ما قبل الإسلام في جزيرة العرب ، و في غيرها من القبائل البدائيّة . ولولا القرآن الكريم الذي وثّق تلك الظاهرة الشنيعة ، المتمثّلة في وأد الأنثى أو قتلها للتخلّص منها، ومن عارها كما كانوا يزعمون ، لاعتبرنا ذلك من مخرجات الأساطير و الترّهات و الخرافات. قال تعالى في سورة النحل الآيتان : 58 و59 (و إذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسودّا و هو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون) .
إنّ إقدام الفتاة (بركة) بطلة قصة (المجنونة) ، على إشعال الحريق الذي التهم كل شيء حول القرية ، يوحي برغبة بركة في الانتقام لتغيير الوضع ، و التخلّص من واقع معيش ، مزر و مسودّ يحتقر الأنثى ، و يمارس ضدّها كلّ ألوان الاحتقار و الإذلال و العدميّة و الإلغاء . إنّ سلوكها ذاك – و إن بدا عنيفا – يشفي غليلها ، و يخمد غضبها ، و يثلج غيظها . إنّه ثورة المستضعف ، حين لا يجد آذانا صاغية لآلامه و معاناته ، و لون من ألوان التعبير عن المشاعر المكتومة و المقموعة في خضم واقع قاس. (كانت تشعر برغبة في إضرام النار بالأشجار تماما كما فعل والدها )، لكنّ نار والدها لم تكن لتطهير الأنفس والعقول من الفوقيّة الذكوريّة وشوائبها، بل أصابها سعال من أثر دخانها (سعلت بشدّة بفعل الدخان الكثيف) . و هي صورة لتكريس تراكم معاناتها النفسيّة و عذاباتها الاجتماعية .
(اشتعلت النيران بسرعة البرق وبدأت تنتشر لتغطي الزرع و الحقل و كل شيء) (اختبأت بركة خلق احدى الصخور الكبيرة، و هي تتأمل المشهد بعينين متّسعتين و ابتسامة بريئة) . لقد حاول أهل القرية إطفاء تلك النيران و إخمادها ، (بكل ما أوتوا من قوة، و لكن دون جدوى).
فعلا ، كانت نهاية القصة، كارثيّة بالنسبة لأهل القرية) المجتمع المتخلّف و الظالم ، سعيدة بالنسبة لبطلة القصة (بركة) .
فالنيران (الحريق) ترمز إلى الطهارة، أي تطهير القرية (المجتمع) من مخلّفات الجاهلية. وكأنّي بالبطلة، قد وجدت أن الكيّ هو آخر العلاج و التداوي من الداء، وهو أحسن سبيل إلى تطهير المجتمع. فإذا كان الحريق الذي التهم كلّ ما حول القرية ، نقمة و كارثة و جريمة و فعل شنيع في نظر أهل القرية ، فهو في عرف (بركة) نعمة و خلاص و انبعاث جديد قادم ….
وكان اختباء بطلة القصة (بركة) خلف تلك الصخور الكبيرة، وهي (تتأمل المشهد بعينين متسعتين وابتسامة بريئة) بمثابة الإجهاز على الدونيّة التي عوملت بها من لدن أبيها والمجتمع، ومحاولة الخلاص من مأساة الأنثى في مجتمع شرقيّ غارق في مستنقع العادات الزائفة و أوحال الجهل المميت .و المتأمّل، لقصة (المجنونة) للقاصة البحرينية فاطمة النهام ، يستخلص العناصر التاليّة:

١- التزام القاصة بالمذهب الواقعي، فقصة المجنونة، تعبّر بصدق عن واقع محلّي وقومي معيش، يعكس أزمة العلاقة بين الذكورة، كرمز للفوقيّة والقوة والاستبداد و التسلّط والظلم، و الأنوثة ، كرمز للدونيّة و الضعف و الصبر .
2- استغلال عنصر الرمز؛ (النار، اللهب، الصراخ ، الأشجار، الزرع و الحقل، الصخور الكبيرة، ابتسامة بريئة ) لإعطاء الحدث القصصي بعدا دراميّا متأزّما وحلاّ يتماهى مع البعد النفسي المأساوي للبطلة، وسعيها إلى التخلّص من واقعها المعيش، و إصرارها على التغيير الدرامي، ولو كان بشكل عنيف. وكأنّ إفلاس التغيير السلمي ،سبب الرئيس فشل الحوار الديمقراطي و المنظومة التعليميّة و التربويّة و الدينيّة داخل الأسرة و المجتمع، في تغيير الذهنيّة الذكوريّة المتخلّفة.
3 – خلاص الأنثى الشرقيّة من قيود و أغلال التقاليد و الأساطير المُميتة، بيدها، لا بيد الذكر . والأمر يحتاج إلى مجاهدة وصبر و وعي وعزم. فالعلاقة بين الذكورة والأنوثة مبنيّة على التكامل و التراحم و التوادد، لا على القوّة و القهر و الاستعباد. إنّ الأب الذي نعت ابنته بركة بالجنون هو المجنون الفعلي و الحقيقي، وليس هي، رغم أنّها مارست حقها في الدفاع عن ماهية وجودها بأسلوب عنيف. فمثلها كمثل الثائر الذي يمتطي صهوة الثورة من أجل استعادة حريته و كرامته ، و عندها تبرّر الغاية الوسيلة .
4 – تميّز أسلوب القاصة فاطمة النهام بالبساطة السرديّة و الوضوح، وهذا ما يجب أن يميّز المعمار السردي، دون الإغراق في المجازات و الرموز الغامضة .
وفي الأخير، وجب التنويه، بقدرة القاصة فاطمة النهام، على التحكّم في سيرورة الحدث القصصي ، و هذا دليل على امتلاكها موهبة القصّ و ملكتها .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى