قراء نقدية في قصيدة (حنين) للشاعر العراقي د. سعيد الزبيدي

عباس أمير | ناقد وأديب

الحنين؛ رجْع صوت المكان والمكان البديلُ

 النصّ؛

أحِنُّ إلى بيتِنا الأوَّلِ

إلى نخْلِهِ الفارِعِ  المُثْقَلِ

إلى سَعْفِهِ ذي الجِذوعِ العِتَاقْ

إلى سَعْفِهِ اليابِسِ المُدَّلِي

إلى حُجْرَةٍ عاثَ فيها الشّتاءْ

ولا دِفْءَ فيها، ولا مُصْطَلِي

ولكنَّها مجلِسٌ عامِرٌ 

ومِحرابُ حَرْفٍ متى أختَلِي

أُعِدُّ بها ما يريدُ الصَّباح 

وأنتظرُ الليلَ لو ينجلِي

وأخلو بها لا أَودُّ الحديثْ

أُناجي الذي بعدُ لم يَأفَلِ

وفي كُوَّةٍ سهرَتْ شمعةٌ

يراقبُني ضوؤُها من عَلِ

إلى أن تذوبَ، وقدْ تَنطَفِي

وأُغمِضُ جَفنًا على مَأمَلِ

وكم من كتابٍ غَفا والسريرْ 

وكمْ دفترٍ دونهُ مُهمَلِ

أظلُّ إلى الفجرِ أرعى الحُروفْ

وأرسِمُ منها رُؤى المُقْبِلِ

يُنازعُني فيهِ شوقٌ قديمْ 

كمثلِ الرّمادِ لدى مِرجَلِ

أحِنُّ إليهِ، و يا لهفَتي 

حنينَ مُعَلَّقَةٍ مُطْفِلِ

يثورُ بِذكرى، إذا ما تَعِنْ

فَيَضرَى، فيُحرِقُ كالمِشْعَلِ

ويَخمَدُ، إن شاغِلٌ عارِضٌ 

كأَنْ لمْ يَكُنْهُ، ولم يَغْتَلِ

فهل زَوْرَةٌ قد تُريحُ الشَّجِي

قُبَيْلَ الثَّوَى، آخِرَ المَنزِلِ

 ***

القراءة؛

 وقد تُستدعَى الأوطانُ، فتستدعي الأوطانُ الأحزانَ، ويُستدرج القلبُ إلى مزيد من التقلّب على نار الشوق والاشتياق، ثم يختصر الشوقُ الوطنَ ببيت ثم يُختصر البيت بغرفة.!

 ومن عند هذا البيت النائي، ترتسم ملامح الحنين، وتُضبط بوصلته بضابط المنظور الشعري. وضمن هذا المنظور يصير (بيتنا الأول) معادلا موضوعيا لمعاناة الشاعر، ومدخلا نفسيا لتقصّي معاناة الغربة والنأي عن الوطن. 

 فالشاعر هاهنا بين (بيتنا الأول)، و(آخر المنزل)، ونحن، المتلقين، بين البيت الشعري الأول الذي يشتمل على (بيتنا الأول)، والبيت الشعري الأخير، المشتمل على (آخر المنزل)،نستحضر الفارق المعنوي بين (البيت) و (المنزل)، ويستفزّنا الزمان بين ماضٍ بحكم الميت، ومستقبلِ يفضي، بعد حين، إلى موت. ونتساءل عن ذلك الفضاء الذي يفصل بين مطلع النص وآخره، بمَ احتشد، وكيف تزاحمت عليه امتدادات البيت الأول وتداعياته التي ستنأى بالشاعر إلى ما هو أبعد، بعد بيت واحد عقيب المطلع، ليصير الحنين حنينا إلى (حجرة عاث فيه الشتاء  …..)، ولكنها تستدعي الشاعر إليها عبر ثمانية أبيات قبل العود إلى (بيته الأول) في البيت الثاني عشر من القصيدة، وأربعة أبيات بعده. وهكذا نجدنا ننتقل مع الشاعر في زوايا المكان، تجيش بنا تفاصيل الزوايا، لتوغل تلك التفاصيل في ترسيخ إحساسنا بالمكان، والمكان وحده، فلا حضور للزمان إلا بصورة الزمن السائل الذي لا يمتاز ليله من نهاره  إلا بالقدر الذي تمتاز فيه شؤون الليل من شؤون النهار؛ فالغرفة/ المكان، جغرافيا وافية ترسم تضاريس المشاعر وتبين عن حفريات الروح ومناخ المحبة، وكأنها (أنا) الشاعر الي أنست بما حولها. والمفارقة أن ذلك البيت لا يكشف لنا عن أشخاص بل عن (نخل فارع)، و(سقف ذي جذوع عتاق)، و(سعف يابس مدلّى)، أما تلك الغرفة فلا يحفر في جدرانها أسماء أحبة، فهي، وإن كانت (لا دفء فيها ولا مصطلي)، ولكنها تحفر في الذاكرة (شمعة تذوب)، و(كتاب يغفو)، و (دفتر مهمل).!

ولعل تلك التصويرية، وهي تضبط مشاهدها بإيقاع نفسي حزين، بكل ما يستدعيه الحزن من تراخ وتأنٍّ، تريد أن تكشف لنا عن تراخي الزمن النفسي للقصيدة فضلا عن مضاعفة المسافة الفاصلة بين اللحظة الحاضرة ولحظة مفارقة ذاك المكان، وكذلك هي حتى طغى حزن إيقاعها على صبوة إيقاع المتقارب الراقص، فصارت تفعيلة (فعولن) لا تجري كما تريد موسيقى الشعر إلا بالقدر الذي تكشف فيه عن ترنيمة الحنين التي نسمع لها أنين الحزين ورجع صوت المكان في صدر الشاعر، صدره، المكان البديل الذي كلما سكن إليه تمخّض عمّا يتمخّض عنه العُود بيد ثكلى.!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى