عماد خالد رحمة ـ برلين
ليس هنري ميشو شاعراً وحسب، إنه ناثرٌ أيضاً يجري قلمه بجفاف وخفّة، بنفاذ وسرعة، بصفاءٍ في الاستعارات والتوريات، بهذا الاقتضاب يُدخِلُنا تواً في مناخات الفكر الصافية، كأنما المَطُلُّ والرَّهَلُ عداوهُ، وهما اللذان يملأان الفراغ الفكري بفراغٍ أرحب وأهول.
وإذا كان لهنري ميشو المتفلِّت من كل إسار أن يدين لأحدهم بفضلٍ، فهو مدينٌ للمتصوِّفةولـ (لوتريامون) لا أكثر…… لأنه من أصعب ما يواجهك وأنت تحاول تصنيف شعر هنري ميشو هو إدخاله أو إقحامه في إحدى المدارس الأدبية أو المذاهب الشعرية التي كَثُرَتْ جلباتها في عصره، وعصرنا، وفي مقدمتها الفوقواقعية. ذلك لأنَّ هنري ميشو قد أعرض عن الرتابة إعراضاً وعن كل ما ألِفَهُ الناس في الشعر وفي الشعراء، فكانت له فاعليةٌفذّة تصفع معتقداتنا ونظرياتنا ونُظُمنا، ومقاييسنا المكرورة، تصفعها لتلقي بها أرضاً، ولتبني على أنقاضها وتُعلي البناء. فإذا ما قُصِدَ بالشعر روحه المألوفة فهو كذلك غير شاعر لأنَّ ميشو أبعد الناس عن الشِعر إذا ما قُصِدَ بالشعِر هيكله لا روحه. ومع ذلك فما من أديب أو متأدِّب اليوم، ما من ناقد يعرف مواقع الكَلِمْ من المعاني إلا ويعترف لـ (ميشو) بقدرة الشاعر المبدع الخلّاق. حيث يقول الكاتب والباحث الأكاديمي روبرت بريشون أهم متخصص في أدب الشاعر الفرنسي الكبير،البلجيكي الأصل هنري ميشو: بأنَّ ميشو إلى جانب البرتغالي فيرناندوز بيسوا، هما أهم كاتبين في العالم وفي كل الأزمنة. كما قال سيغرس فيه: إنَّ شعره يحيّر لفرط صريفه، وفحيحه ويأسه وصراخه، وصفائه الذي لا يرحم، إنه عند تخوم اللغة والعقل، فهو أقرب الناس إلى كافكا.
ولد هنري ميشو في 24أيار عام 1899 وكانت ولادته في نامور ببلجيكا، حيث أمضى طفولته الصعبة والمنغلقة على ذاتها بين 1900 و1906 في بروكسل، وبين الأعوام 1906 و1914 تابع دروسه في مرحلتها الأولى في مدرسة داخلية بالريف وبعدها في بروكسل بمعهد يديره الآباء اليسوعيون. انكبَّ هنري ميشو طوال الحرب العالمية الأولى على المطالعة بكثافة، فقرأ مئات بل عشرات المئات من القصائد الشعرية والروايات والقصص والكتب الثقافية المتنوعة، ومن ثم توسَّعت آفاقه أكثر من خلال سفره الطويل والمتواصل عبر البحار والمحيطات، وكانت صدمته الأولى والكبرى عندما قرأ لوتريامون عام 1922، فقد كان الدافع الأساس لهنري ميشو لأن يكتب بغزارة بخاصة عندما استقرَّ في باريس التي نال الجنسية الفرنسية فيها عام 1924، والتي استلهم من جمالها وجمال طبيعتها كل لوحاته التي رسمها بريشة الفنان المحترف. مات هنري ميشو في العام 1984بعد أن ترك العديد من الأعمال منها : (الليل يتحرك، أمكنة أخرى، فضاء الداخل، رياح وغبار، اللانهاية المدومة، حركات، لحظات) وهذه الإطلالة الأولى للشاعر ميشو يقول فيها:
1 – لا أقدر أن أرتاح، فحياتي أرق. ولا أعمل ولا أنام ـ أمارس الأرق. حيناً تقف روحي على جسدي الممدد وحيناً تتمدد روحي على جسدي الواقف، لكن لا نوم أبداً. لعمودي الفقري قنديله الخاص ومن المستحيل أن ينطفئ .
أليست الفطنة هي التي تبقيني متيقظاً ذلك أنني إذ أبحث فإن لي حظاًَ أن أجد شيئاً يخالف كلياً ما أبحث عنه، ذلك أنني أعرف عما أبحث.
2 –
في صدري ثقب صغير
تهب فيه روح مخيفة
أيتها القرية الصغيرة لست لي
إنني في حاجة إلى الحقد والرغبة ففي هذا صحتي.
وتلزمني مدينة كبيرة ورغبة كبيرة استهلكها.
ويلزمني أن أنظر من النافذة، الفارغة مثلي.
لي سبع أو ثماني حواس، وبينها حاسة النقص. ألمسها وأجسها كما أجس خشبة… وتلك هي حياتي، حياتي بفعل الفراغ. وإذا غاب هذا الفراغ، أبحث عن نفسي. سأجن، ويكون الأمر أكثر سوءاً.
إنني مبني على عمود غائب.
3 –
خذوني في مركب
في مركب وديع عتيق، بين الزبد
وأضيعوني بعيداً، بعيداً،
في حافلة عصر آخر
في مخمل الثلج الخادع
في قطيع الأوراق الميتة.
احملوني، دون أن تكسروني،
في القبل
في الصدور التي تنهض وتتنفس على سجاد الراحات وابتسامتها في ممرات العظام الطويلة، في المفاصل.
خذوني أو بالأحرى خبئوني.
4 ـ
البحر غير المحدود، هو ما أعرف، ما هو يخصني
في الحادية والعشرين، كنت أهرب من حياة المدن، وأصير بحاراً. كنت أظن أننا، في السفينة، ننظر إلى البحر، ننظر بلا نهاية.
أوقفت السفن عن الإبحار،
وبدأت بطالة العاملين في البحر.
هكذا تركت العمل. لم أقل شيئاً. كان البحر في نفسي، يدور أبدياً حولي.
لقد أحبَّ هنري ميشو الحديث في نثره الرائع عن الحلِّ والترحال والأسفار، فمنها ما انتظمت واقعاً، ومنها التي جرى بها القلم على بركة الخيال، إلا أنها جميعاً تؤلِّف بين الملاحظة الدقيقة ونوازع البال، سَواءٌ منها ما جاء في كتابه (رحلة إلى غربانيا الكبرى Garbagne)، أو كتابه (في بلاد السحر) أو كتابه (هُنا بوديما Poddema). وقد أحبَّ في نثره أيضاً، أن يحدثنا بالأمثال،فجاء كتابه (بلوم Plume) قمة من قمم هذا اللون الأدبي. على أنَّ ما يهمنا منه هنا هو الشاعر، أي ذلك الذي ينعكف على العالم ذاته،على فضائه الداخلي، فيُعلن لنا ما يعتمل في كهوفه الحميمية، وهكذا فأجملُ ما كاشَفنا به هو سيرته الداخلية التي تسلسل حوادثها وأحداثها في عالم جوّاني، عالم الأحلام والرؤى العجباء التي إنما هي بروجٌ سوداء في جَلْدِ نفسه.لذلك تحاشى عن النثر أداةً للتعبير، وتطلَّبَ الشعر يصفع به المنطق، منطق العامّة ومنطق المحافظين،فكيف لغير الشعر أن يُقيمنا على ما يهدر في أعماق شاعرنا من ألمٍ وتَحرُّقٍ، وعلى ما يساوره من رهبة الموت المقيمة،من كابوس الليل والعدم، من الخواء الكوني الذي ينفخ فيه لُهائه البارد؟ حيث يصرخ حيناً متقطّع الصوت، متهدّج النبرات، وأحياناً يستقيم نَفَسُهُ في نشيدٍ متماسك. يقول في إطلالته الثانية، الرغبات المشبعة:
ما أسأت إلى أحدٍ في الحياة.ما كان لي من ذلك سوى الرغبة. وما عتَّمتُ أنْ فقدتُ الرغبة تلك، فقد أشبعتُ رغبتي.أبداً لا يحققُّ المرء في الحياة جميع ما يرغب فيه،حتى ولو أنك، بجريمة موفقةٍ، محوتَ أعداءك الخمسة، فإنهم لا ينوون يخلقون لك المتاعب، فالمتاعب من الأموات الذين عانيت ما عانيت في سبيل محوهم من الوجود،وإنَّ في تحقيق الجريمة دائماً نقصاً، بينما أنا بطريقتي أستطيع أن أقتل من أقتل مرتين،وعشرين مرّة وأكثر، فالرجل نفسه يقدِّم لي كلَّ مرةٍ شِدقَهُ لبغيض فأغرِقه له بين كتفيه إلى أن ينتج الموت من ذلك، وإذا ما قتَلْتُ الرجُلَ وعاَتْهُ برودةُ الموتِ، وبدا لي أنَّ هنالك تفصيلاً يضايقني، أبعثُ الرجلَ للحال وأُعيدُ قتلهُ، مصححاً ما أردتُ تصحيحه بالنسبة للمرّة السابقة . لذلك فإنني في الواقع كما يُقال، لستُ أُسيئ إلى أحدٍ، حتى ولا إلى أعدائي. أنا أحتفظ بهم للذّة العين، لروايتي التي أُمَثِّلُها، فباعتناء وتجريد كاملين (وليس من فنٍّ بدون تجرِّدٍ) وبالتصحيحات والمراجعات اللازمة، أُجهزُ عليهم إجهازاً.
لا، وحق الشعر المكرَّس العهيد، ما هذا بشعر!!! ولكن أتراه نثراً؟ وحقِّ النثرِ أيضاً، ما هذا بنثر!! فما هو إذاً إنه هنري ميشو الشاعر الناثر الذي جمع المتناقضات وألّفَ بينها فصفع المقاييس.لم تكن ثقافته وقوة كتابته بمثل آخر انجازاته فقد ربط الباحث روبرت بريشون حياته بحياة الشاعر هنري ميشو منذ سنة 1945، يقول: (إذا ما حاولتُ التأريخ لعلاقتي المتفردة معه، فسوف أستطيع أن اكتشف ثلاثة تواريخ: اكتشاف العمل سنة 1945، والتقاء بالرجل سنة 1956، ونشر كتابي الذي جعلني متخصصاً في كتاباته سنة 1959،وذلك بعد قراءة (روني بيرتولي) وقبل (رايموند بيللور) ويعترف الكاتب بأنه تعرّف للمرة الأولى على هنري ميشو حين قرأ قصيدته الشهيرة (خُذْني معك) التي نشرت سنة 1943، ثم التحق بالزمن الضائع حين قرأ كتاب (روني بيرتولي) المكرَّسُ للشاعر سنة 1946 عن دار نشر (سيغير Seghers الذي قال : (الذي علَّمَني منْ يكون الشاعر، الذي أصبح قريباً إلى قلبي. الأنطولوجيا الصغيرة من النصوص، الشعرية والنثرية، التي رافقت الدراسة جعلتني أكتشف أوْجُهاً من عبقريته مع نهاية الأربعينيات كنتُ قد قرأتُهُ من بين منْ قرأتُ لهم، فأصبح نموذجي وأستاذي وصديقي العبقري. مثلما لم أعرف أحداً من قبل، باستثناء رامبو) ربما سنة 1956 حين تعرَّف الكاتب على هنري ميشو شخصياً، كان في لحظة فاصلة من حياته ومن عمله.لقد تعرَّض لهزّات كبيرة، ودفعته قضايا كبرى للتشكيك في حاله، ومن بينها الاحتلال والرعب النازي (التشيؤ الأنطولوجي الذي يرد وصفُهُ في أعماله يلتحق بالتشيؤ السياسي والتاريخي. هذه المواجهة تمنح كتاباته في هذه الفترة رنّة تراجيدية تميزه عن باقي شعراء المُقاومة ضد النازية الذين مالوا صوب الصراع وصوب المستقبل). كما أن الشاعر عانى من المرض سنة 1946 وأيضا من صدمة وفاة زوجته ماري ـ لويز. هذه الصدمات والكوارث الشخصية «ألهَمَتهُ نصوصاً من رنة أخرى» أو ما رأى فيه الكاتب مسيراً داخلياً صوب السكينة. هنري ميشو كان في هذه اللحظة: (هو الرجل الذي يُريدُ، بشكل يدعو إلى اليأس، ومنذ البداية اكتشاف (أبواب الإحساس) إن لم نقل الوُصول إليها)، ولكنه أيضاً الرجل الذي يبحثُ بشكل بالغ الطموح في الوصول إلى حدود الشرط الإنساني) في فصل معنون (وُلدتُ ومعي كثيرٌ من الثقوب) يتحدث الكاتب عن ديوان الشاعر الأول (إكوادور)، الذي يعتبره من الروائع. ولكن ما هو هذا الكِتابُ الذي يرى فيه، كاتبنا، إحدى الروائع؟ يحذرنا من البداية بالقول بأنه ليس بـالعمل الأدبي بالمفهوم الحقيقي.«إكوادور» هو يوميات رحلة، كما هو شأن كتابه اللاحق «بربري في آسيا» Un barbare en Asie، ولكن بصيغة مختلفة. ارتأى هنري ميشو القيام بسفره، من دون شك كي يحكيها، بل وإذا ما صدَّقْنَا بعض اعترافات بولهان Paulhan فإنه سيجعل منها روايته. إذنْ فالكتابُ ليس يوميات رحلة يُمكن أن يكتُبَهَا أيُّ مُسافر. إن مقولات هذا المسافر هي، دفعة واحدة، ذات طبيعة أدبية. لهذا فلا يجب أن نستغرب من أسلوب الملاحظات، غير المألوفة في هذا النوع الأدبي. إن أمثلة من وصف يقول:
(الإكوادور تخترقها أنهار من الشوكولاتة.. نَلِجُ في الغابة. هذه الغابةُ فيها تدفئةٌ. شقة كبيرة جداً.. الغابة مسكونة بشكل كبير وغنيةٌ بالأموات والأحياء).
إنه لا يريد أن يتَنَافَسَ مع شاتوبريان ولامارتين ونيرفال وفلوبير وكبار الكتّاب الرحّالة في العصر الرومانسي. إنه يبحث هو الآخرُ عن الدهشة، ولكن ليس عبر نفس المَشَاهد، وليس بالطريقة نفسها. ومن خلال الإطلالة الثالثة والتي جاءت تحت عنوان (الرسالة) نجد أنه يطوي من خلالها صفحة جديدة من صفحات حياته العامرة بالصفحات، فقد كانت الإطلالة السابقة قد فتحت سفر الفوقواقعية، حيث ساقتنا التجربة أو الوسوسة الشيطانية إلى تخطيط الفروق وقوى الاتصال في عملية تشد عمر الفكر بعضاً إلى بعض في مراحله المختلفة المتغايرة، ووسوسة الشيطان من لوازم الشعر، سواء منه الذي يُلهِب الحس والخيال أو الذي يستحرُّ في مصاهر العقل، على أننا لسنا إلى ذلك، لأنَّ هنري ميشو أبعد الناس عن الخضوع للموازنات، كالمسلّة الناهدة إلى العلاء هو، في عراء ما حولهُ، يرتفع ليعلن إلينا ما وقف عليه مخابئ أصوله، حتى لنشعر بعده أنَّ هذه التي أسماها الفلاسفة النفس البشرية، وزعموا أنهم فككوا ميكانيكيتها المعقّدة وحلّوا ألغازها، وسبروا أغوارها وتكشف لهم بِطانتُها وظِهارتُها، إنما هي أحجية الأحاجي إلى اليوم، ما أسلست قياداً إلّا وامتنع منها ألف قيّاد (قائد). يقول في (الرسالة):
غناؤنا في العناء الكبير الكبير لم يتصاعد، الفنُّ الصليبُ كحجرِ اليشيب توقَّف الغيوم تَعْبُرُ، الغيوم الصخرية الحواشي، الغيوم الدرَّاقية الحواشي ونحن، كالغيوم نَعْبُر،تُنَفِّخُنا قوةُ الألم الزائلة ُ.
لا نحبُّ النهار من بعدُ، إنّهُ يوَلوِلُ، لا نُحبُّ الليل من بعدُ، إنّهُ مبطَّن بالهموم، ألفُ صوتٍ لنغرق، صِفرُ صوتٍ لنستند،لقد تعب جِلْدُنا من وجهه الشاحب.لقد نظرنا إلى أنفسنا في مرآة الموت، لقد نظرنا إلى أنفسنا في مرآة الخَتمِ الذي أُهين ، والدم الذي يسيلُ، والحَمِيَّةِ المقتولةِ، في مرآة فحَّمي المذلّاتِ، لقد رجعنا إلى الينابيع الخضراء الضاربة إلى الازرقاقِ.
ليست الروح الفوّاحة هي التي تعيدنا إلى الينابيع الخضراء الضاربة إلى الازرقاق، بل العودة إلى الطمأنينة الداخلية، فالمسوخ هي التي تردُ هذه الينابيع، مسوخ الشهوات والنزوات والغرائز، فلماذا التعَمُّلْ الفنّي إذاً؟ الضياء والوهج النافذ وحده يطرد المسوخ.
هذا هو هنري ميشو الواضح الغامض يكشف العري على حقيقته وينير ظلماته بنور يشرق على الدنيا من جديد.