حراس العقل (قصة قصيرة)

الأديب السُّوري الدكتور موسى رحوم عبَّاس|

الرِّياض 

(1)

“وقد وصلَ الثَّلاثةُ إلى المطارِ الدَّولي يوم …. على متنِ رحلةِ الخطوطِ الوطنيَّة رقم …. وأفادتْ مصادرُنا هناكَ أنَّهمْ ينتمونَ إلى منظَّمةِ ’حُرَّاس العقل‘ وهي منظمةٌ متطرِّفةٌ تسعى لإحداثِ تغييرٍ شاملٍ في بنية الدَّولةِ والمجتمعِ …. وتمَّ رصدُ أماكنِ اجتماعاتهم …. للمتابعة وإجراء اللازم.”       

الصفحة الثَّانية من تقرير المصدر.

(2)

” تتمُّ المتابعةُ في مرافقِ الجامعةِ كافَّة.” 

الصفة والتوقيع 

جزء من أمر المتابعة. 

(3)

   تلكَ الليلةُ الباردةُ، وفي بدايةِ وصولنا إلى تلكَ المدينةِ النَّائيةِ في شمالِ شرقِ بريطانيا، عاصمة إسكوتلند، إدنْبرة، أتذكَّرُ زيارتنا لقلعتها التَّاريخيةِ المرتفعةِ وسطَ المدينة، مقابلَ الضَّريحِ، عندما قفزَ محمد عادل وهو يصرخُ، “العَمَى! هذه حَلَبُ خَيُّوو، والله كأنَّني ببابِ الحديدِ أو جُبِّ القُبَّة، انظروا للحجرِ الأسودِ الذي رُصِفتْ به الشَّوارعُ، وهذا الشَّارعُ الصَّغيرُ الذي يصعدُ نحوَ قِمَّةِ القلعةِ كأنَّهُ شارعُ حَمَّامِ بابِ الأحمرِ المجاورِ لقلعةِ حَلَبَ.” ثم احتضنَ المِدفعَ الكبيرَ الذي يربِضُ على أعلى قمَّةٍ في القلعةِ، وهو يقرأ العبارةَ التي كُتِبَتْ عليه، “عليكَ إظهارُ الاحترامِ لهذه السَّيدة، فقد دافعتْ عَنَّا ذاتَ يومٍ.” 

وسألني بلهجته الحلبية، “خَيُّو، ليش كتبوا سَيِّدة؟” قلتُ له، “المدفعُ عندهم مؤنَّثٌ.” فأطلقَ ضحكته المجلجلة قائلا، “مدافعنا ذكورٌ بس ماعَمْ تدافعُ عنَّا!” هذه آخر مرَّةٍ أرى فيها محمد عادل. سمعتُ فيما بعد أنَّه أعيدَ للوطن بعد إلغاءِ بِعْثتِهِ! 

 كانتْ سعادتُنا كبيرة ًعندما التحقنا بعد سنواتٍ بكلياتنا في جامعتنا الأم أساتذة باختصاصاتنا التي ابتُعثنا لأجلها، وتلقينا التَّهاني بالتَّخرُّج في جامعة إدنْبرة الحكومية، اسكوتلند.

 مَرَّ أسبوعٌ على وصولنا، وما زلنا في مرحلةِ تقديمِ الأوراقِ والشهاداتِ الرَّسمية، وضمن الإجراءات استقبلني ذلك الشابُّ باللِّباس المدنيِّ الذي أقدِّرُ أنَّهُ تجاوز الثَّلاثين بقليلٍ. في مكتبِ لم أستطعْ تحديدَ موقِعِهِ، نُقِلتُ بسيارتِهم ذات السَّتائرِ المُسْدَلَةِ. بادرني الشاب قائلا، “مَنْ هُمْ حُرَّاسُ العقلِ؟”

أجبته ضاحكا، “هم أنا وعادل وإلياس.”

“ليسَ الأمرُ مُضْحكًا، أجِبْ على قَدْرِ السُّؤالِ!”

“يا سيِّدي، الأمرُ بسيطٌ، هو اسمٌ كُنَّا نُطْلقهُ على مجموعتنا في المقهى والسَّكن الجامعي.”

“أهدافكم، تمويلكم، ارتباطاتكم؟”

كنتُ أظنُّ الجامعةَ مكانًا لحراسةِ العقل، يا سيدي، وبيتًا للمجانين المُبْدِعين، واقترحتُ أن نُمْنحَ حصانةَ القاضي، لنلقي كُلَّ ما نفكِّرُ بهِ من دون خَوْفٍ، يا سيِّدي!”

  كانتِ المرَّة الأخيرة التي أدخلُ فيها الجامعة أستاذا، لكنَّني واظبتُ على عبورِ البوَّابةِ الكبيرةِ على الأوتوستراد لأوصلَ طلباتِ المَقْصفِ الجَامعيِّ من أكياسِ النَّايلون والأكوابِ الورقيَّة ومشروباتِ الطَّاقة من السُّوبر ماركت الذي أعملُ به، وصاحبه يستحثُّني على السُّرعة كونه المقاولَ الجديدَ الذي وقَّعَ على اتفاقيةِ الاستثمارِ للمقاصفِ الجَامعيَّة للعامِ الجديدِ. أحاولُ ذلك لكن ذلكَ الألمُ الذي يجعلُ ركبتي كُرَةً من النَّارِ يمنعني من تنفيذِ توجيهاته. رغم هذا أستطيعُ تبيلغَ سيادةِ عميدِ الكليَّةِ والزميلِ السَّابقِ الذي تخرَّجَ قبلنا بعامٍ من الجامعةِ الاسكتلنديَّةِ نفسِها الدكتور الياس حكيم تحياتِ “المعلِّم.” فهذا لا يحتاجُ لجهدٍ على رُكْبتي المُحَطَّمة! وقليلٌ من العَرَجِ لا يُعوَّلُ عليه! رغم أنَّ سيادةَ العميدِ لا يخفي تشفِّيه وسخريتَهُ من مِشيتي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى