عن الحداثة والغربة والوطن

آرام كرابيت-كاتب سوري مقيم في السويد

.

الحداثة لم تترك الآخر (نحن) يصنع غده، وإنما أبقته مزعزع الحاضر والجذور والانتماء.. أبقته خائفًا على بقائه، مصيره؛ فيستبدل المكان بالهرب إلى الأمام، إلى اللامكان، تجسيدًا للهزيمة الداخلية برافعة خارجية:
“لم تبق إلا ساعات وأغادر أرض الوطن.. نعم أغادر الوطن، وربما إلى الأبد. لن أرجع، سوف أنسى كل أبيات الشعر التي تعلمتها في المدرسة، أنسى الحنين والمشاوير والقمر في الصحراء”.
يمكننا القول إننا ولدنا غرباء في ظل الحداثة، بفعل فاعل، لم يسمحوا لنا بهضمها وتمثلها. جرى الحجْر علينا، لم يسمحوا لنا في تبنيها؛ لهذا بقينا منفصلين عنها كأنها نبتة غريبة عنّا، وغريبة عن شرط زماننا ومكاننا. كنا نراهن على القيمة الجمالية والأخلاقية الكامنة في جذور أرضنا، بيد أن هذا كان وهمًا.
كانت الحداثة المسماة، الحرية، كذبًا، أقوى منّا، دفعتنا بعيدًا، وضعتنا في مكان، وجذورنا في مكان آخر.
إلياس نخلة، أحد الشخصيات المهمة في رواية عبد الرحمن منيوف، يمثل هذا الصراع بين هذا الوطن، الوجود، والآخر. وهذا الصراع بين المدينة والريف، العميق عمق التاريخ، بيد أن الحداثة غيرت المعايير كلها؛ حولت ابن الريف، ابن الأرض الطيبة، الأرض القابعة في الذات، إلى زمن آفل، إلى لا ذات، إلى مجرد هروب. بل تحول إلى مهرب، هارب من الحدود الداخلية والخارجية، والغربة الذاتية تلاحقه وتمزقه.
إنها مزدوجة متنافرة، من زارع للأرض والسماء، إلى قاطع طريق، قاتل ومخرب. وكل ذلك جاء بعد عمر طويل، قابعًا في مكانه عشرات الآلاف من السنين، ماكثًا في الطيبة، أرض الجمال، التي ماتت أمام أنظارنا

**

تحولت الغربة إلى حذاء قديم، شوكة مدببة، مغبرة اللون، تأكل الذات والذات.
هناك، على الحدود، ودعت نفسي دون وداع، وزرعت حسرة على بوابات الوطن المكسور.
كان هذا الوطن قد تحول إلى عبء، قدر، ماض ثقيل. أريد أن يخرج مني، أن يحررني من نفسه، ويتركني أسابق الزمن في الركض إلى الزمن الآخر المجهول.
كنت أعلم أن كل الأبواب مغلقة، وأنني أهرب أو هارب من باب إلى باب، ومن غربة إلى غربة، إلى تلك الذات التي لم تعد تركن الذات، إلى زمن ومكان متعارف عليهما، وقلت:
وهل تعيش النبتة الغريبة في مكان مألوف؟
إن إلياس نخلة في رواية (الأشجار واغتيال مرزوق) يمثل الإنسان الشرقي، بل الشرق برمته.. في قلقه، تأرجحه، توتره وعدم استقراره.
إن إلياس نخلة وقرية الطيبة، كائنان متقاطعان مترابطان متلازمان منفصلان.
الطيبة، تلك الأرض الوادعة، الخضراء تتحول إلى أرض مملحة، مزعزعة، قلقة.. جفت ينابيعها وقطعت أشجارها وقتلت مواشيها.
إنها الحداثة، جاءت على حين غرة، وقبضت على زمن الطيبة، وعومت حياتنا، وحولتنا إلى مجرد رهينة لديها.
بان هذا الرهن -بادئ ذي بدء- على الريف، على الإنسان ابن الأرض، ابن الجذور. جاءته كالجراد وقلعته من مكانه، ثم دمرت المدن الواحدة تلو الأخرى على نحو ممنهج، إلى أن أصبحنا دولًا فاشلة.

***

منذ كنت في ريعان الشباب، كانت رواية، الأشجار واغتيال مرزوق، صديقًا لي. وكان الياس نخلة والطيبة جزء من ذاكرتي الجميلة. تركت أثرًا بالغًا في داخلي لم تبارحه إلى اليوم. وعندما كتبت عنها مقالة يتيمة بناء على تلك الذاكرة القديمة، شعرت بالفرح أنني استطعت ان اتغلغل في داخلي وأخرج الياس نخلة من داخل قلبي وأضعه أمامي وأقبله، وأقبل الطيبة، الارض العربية الخضراء الذي قتلها النظام العربي.
يسأل ابن الطيبة نفسه كما سأل كل واحد منّا نفسه السؤال ذاته، بعد أن غدر بنا الغدار:
ما هو الوطن؟
“هل هو الأرض؟ التلال الجرداء؟ يجب أن أجبر نفسي أن أبول هناك، لا أريد أن أحمل شيئًا معي”.
إلى هذه الدرجة أصبح التاريخ والتراث والشرق برمته عبئًا ثقيلًا على الذات المسحوقة.
بين الاستقرار والهرب، يكمن صراع داخلي بين الأنا، الذات المرتبطة بالمكان التاريخ، بالوطن، وبين إلغائه من الذاكرة. إنه صراع بين ضحيتين، جاء إليهما من خارجهما، فرض عليهما التمزق والانكسار الأبدي:
“زالت من ذاكرتي الأفكار الحالمة عن الوطن؛ أصبحت لها دلالات صلبة، حارة.. ما هو الوطن؟ أن يجوع الإنسان؟ أن يتيه؟ باحثًا عن موطأ قدم ليبقى على قيد الحياة؟”
إنه قتل للاوعي الذاتي واللاوعي الجمعي، للبناء المشيد، التاريخ الذي امتد على هذه المساحات الكبيرة.. لهذا الرحم الذي أنتج وقدم وأعطى وأخذ، واليوم يتحول إلى أسئلة: من نحن؟
هذا الانفصال صهر الذات وردمها:
“بعد أن بعت الأرض التي ورثتها عن أبي؛ لم أعد أطيق أن أمد يدي إلى الأرض، وأحفر ذراعًا واحدًا”.
وبعد أن فقد كل شيء:
“أصبحت في الجبل قاطع طريق، مشردًا، حيوانًا”.
ويدخل الإنسان المكسور في نفق عميق يطرح أسئلة وجودية عميقة:
ما هي الحياة؟
الإنسان في بلادنا في حالة هروب.. هروب دائم من المكان، كأن الأرض التي يعيش عليها، نافرة، منكرة له.. ترفضه.
إنه في حالة لهاث:
عندما قلت لن أعود إلى الوطن مرة ثانية، كانت الغربة قد سبقتني إلى الحدود، ومكثت هناك تنتظرني

.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى