ندامى القصيد ( الأندلس والشرق)

البراء هلال

 

كانت له أربع نسوة، ولم تكن واحدة منهن تعرف بحكاية حبه لتلك الأميرة.. هكذا تقول كتب التاريخ، وكيف لنا أن نصدق ونحن لا نعرف عن تاريخ ابن زيدون إلا أنه كان يعشق ولادة بنت المستكفي.
قصة عشق ابن زيدون غطت على جوانب كثيرة من شخصيته استحق بها لقب ذي الوزارتين. وهكذا جل وزراء الأندلس..
لم يكن المشارقة يعبؤون كثيراً بما يدور في أروقة تلك الديار البعيدة خلف بحر الروم.. يقول الرواة الذين زاروا تلك البلاد أنها خلابة تسلب الألباب ، لكن كيف نصدق نحن المشارقة ولا نرى فيما يصلنا من كتبهم وأشعارهم إلا أنهم يتخذون رموز المشرق نجوماً يمتدحونها، يتباهون بها و يحتذون حذوها..
هل نجرب؟
جرب أبو علي القالي البغدادي، وهو بالمناسبة كردي من ديار بكر، أن يرحل للأندلس ويغور في أعماقها ومجاهلها، ويصوغها حكايات يعود بها ليحكيها لأهل بغداد.. فعل.. لكن قرطبة بقصورها التي لايشبهها شيء، ببنيانها، ببنياتها ، بخضرتها .. جذبت خضراء نفسه ، فاستقر فيها حتى قضى على ترابها وزيراً للخلفاء.. لكن لم ينسلخ يوماً عن أصله… كان مجلس الحكم المستنصر معركة حامية الوطيس بين كل علماء الأندلس من جهة والقالي من جهة أخرى حول استشراق المغاربة أو اغتراب المشارقة.
اقرأ في يتيمة الدهر للثعالبي إن شئت عن ابن دراج القسطلي ( هو بالصقع الأندلسي، كالمتنبي في صقع الشام.) و قد لقب المشارقة ابن هانئ الأندلسي (متنبي المغرب) وسموا قرطبة دمشق وسموا إشبيلية حمص، وماكتب مشرقي كتابا إلا قلده أندلسي فيه، بيد أنه لم يفعل ذلك أحد من المشارقة.. لا تجد مشرقيا تسمى بابن زيدون البغدادي مثلاً.. دعك من شوقي الذي سمى منزله (كرمة ابن هانئ) فابن هانئ عاش دهراً في مصر أيضاً ، يتملق ملوك الفاطميين العبيدين وهو الذي قال لأحدهم -والعياذ بالله:
.
ماشئت لا ماشاءت الأقدار * فاحكم فأنت الواحد القهارُ
وكأنما أنت النبي محمدٌ * وكأنما أنصارك الأنصارُ
.
وحين جاء أبو بكر بن عمار (الوزير) يمدح المعتضد بن عباد في قوله:
.
تبوأت من لخم وناهيك منزلاً * مكان رسول الله من آل هاشمِ
.
غضب المعتضد وقال: ( مازاد ابن عمار على أن هزئ بنا.. ) وأمر بنفيه إلى شلب.
ابن عمار هذا كان منافساً شرساً لابن زيدون. وكان ابن زيدون يجيد خطاب الملوك ومدحهم ومجالستهم، مستنداً إلى خزانته الفلسفية ومعرفته الواسعة وخلفيته التاريخية العظيمة.
حين أقرأ قصائد ابن زيدون في مدح بني عباد أرى أنه يحاول أن يستدرك على النابغة مافاته في مدح النعمان والاعتذار إليه. حتى لكأن ديوانه في المدح يستحق أن يسمى على طريقة الشاعر السوداني محمد عبد الباري (ما سقط من ديوان النابغة…)
كان ابن زيدون مفتوناً بشعراء المشرق وتاريخ المشرق وأطلال المشرق، حتى إذا مدح بني عباد لم يكد يذكر مأثرة لهم سوى أنهم لخميون أحفاد المناذرة ذوي الأصول اليمانية، ثم يستطرد في وصف المناذرة ومآثر المناذرة على طريقة.. (والجمل حيوان ضخم يسمى سفينة الصحراء…)
وإن أسلوب ابن زيدون في المدح يخيل إليك أنه ليس لبني عباد مكرمة، واسمعه يمدح المعتضد فيقول:
.
إنْ أغترِبْ فمواقِعَ الكرمِ، الّذي
في الغَرْبِ شِمْتُ بُرُوقَهُ، أرْتَادُ
.
أو أنأَ، عنْ صيدِ الملوكِ بجانبي،
فهمُ العبيدُ مليكُهُمْ عبّادُ
.
أنّي رَأيْتُ المُنْذِريْنِ، كِلَيْهِما،
في كونِ ملكٍ لم يحلْهُ فسادُ
.
وبصُرْتُ بالبردَينِ إرثِ محرِّقٍ،
لمْ تخلُقَا، إذْ تخلُقُ الأبرادُ
.
والبردان أعطاهما عمرو بن هند ملك الحيرة لعامر بن أحيمر أعز العرب والمحرق لقب لعمرو بن هند الذي حرّق مئة رجل ثأراًً لأخيه، ويتابع ابن زيدون رشق إشاراته التاريخية وهو يمدح المعتضد:
.
وعرفْتُ من ذي الطّوْقِ عمرٍو ثأرَهُ
لجَذِيمَة َ الوَضّاحِ، حينَ يُكادُ
.
وعمرو هو ابن أخت جذيمة الأبرش و هو الذي ثأر له و قتل الزباء (زنوبيا) ملكة تدمر بالتآمر مع قصير الذي لمكر ما جدع أنفه، وفي ذلك حكاية لطيفة بها أكثر من 20 مثلاً من أمثال العرب منها المثل الذي أشار إليه البيت (شب عمرو عن الطوق) وذاك أن عمرا ضاع وهو طفل صغير وعثروا عليه بعد سنين كبيراً فألبسته أمه طوق الخرز الذي كان له طفلا قبل أن يضيع وحين رآه جذيمة أمر بخلع الطوق و قال (شب عمرو عن الطوق) وبما أنك تظن أن الذي قتل زنوبيا هو يوليان القائد الروماني فلا فائدة إذن من إضاعة الوقت في هذا الحديث، ولنعد إلى ابن زيدون مستكملاً مديحه للمعتضد وهو ما يمدح إلا بني ماء السماء:
.
وأتَى بيَ النّعمانَ يومَ نعيمِهِ،
نجمٌ تلقّى سعدَهُ الميلادُ
.
قَد أُلّفَتْ أشْتاتُهُمْ في وَاحِدٍ،
إلاّ يكنْهُمْ أمّة ً، فيكَادُ
.
فكأنّني طالعْتُهُمْ بوفادة ٍ،
لمْ يستطِعْهَا عروة ُ الوفّادُ
.
وهنا يشير إلى عروة الصعاليك، عروة بن الورد الذي كان أكرم العرب وفادة لضيوفه فلقبوه (عروة الوفاد) ثم يمدح ابن زيدون قصور المناذرة (السدير) و (سنداد) مشبهاً بهما قصر الزهراء وقصور إشبيلية، ولعل قصور الأندلس أفخم وأعظم ولكنه إكبار المغاربة لإرث المشرق:
.
في قَصْرِ مَلْكٍ كالسّدِيرِ، أوِ الذي
ناطَتْ بهِ شُرُفاتِهَا سِنْدادُ
.
تتوهّمُ الشّهْبَاءَ فيهِ كتيبة ً
بِفِنَاءٍ، اليَحْمُومُ فيهِ جَوادُ
.
يَختالُ، مِنْ سَيرِ الأشاهِبِ وَسطَه،
بِيضٌ، كمُرْهَفَة ِ السّيوفِ، جِعادُ
.
في آلِ عبّادٍ حططْتُ، فأعصَمتْ
هِمَمي، بحَيْثُ أنافَتِ الأطْوَادُ
.
أهلُ المناذرَة ِ، الذينَ همُ الرُّبَى
فَوْقَ المُلُوكِ، إذِ المُلُوكُ وِهادُ
.
قَوْمٌ إذا عَدّتْ مَعَدٌّ عَقِيلَة ً،
ماءَ السّماء، فهمْ لهَا أوْلادُ
.
حين يمدح ابن زيدون بني عباد ثم لا يذكر إلا اليحموم فرس النعمان، والغريين ويوم سعد النعمان ويوم تعسه، والسدير ومارد والأبلق وبني ماء السماءـ وذلك مستطرد في أكثر من قصيدة، فإنه والله يهزأ ببني عباد لو يفقه (المعتضد) أشد من هزء أبي بكر بن عمار، فاسم الممدوح يكتب في زاوية ما أعلى القصيدة ثم لايقرؤه أحد، ولا تعرف الناس إلا من خلدت الابيات ذكرهم.
كان ابن زيدون علّامة .. كان فيلسوفاً.. كان مؤرخاً، كان وزيراً وسياسياً ولكن حين يأتي ليمدح أظن أنه يكفيه أن يعيد ما قال النابغة :
.
أَلَم تَرَ أَنَّ اللَهَ أَعطاكَ سَورَةً
تَرى كُلَّ مَلكٍ دونَها يَتَذَبذَبُ
.
فَإِنَّكَ شَمسٌ وَالمُلوكُ كَواكِبٌ
إِذا طَلَعَت لَم يَبدُ مِنهُنَّ كَوكَبُ
.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى