السبيل لإنقاذ مهنة الصحافة
محمد خراجة | كاتب صِحافي – مصري
يسألونك عن الصحافة، قل: هي كتابة، وتسطير، ونبأ يقين، وتنوير وتثقيف، وتوعية وتعليم، وتوضيح للناس، وتبصير للحاكم، وتشكيل للرأي العام..هي الفكر والنقد البناء، وأول مهنة أوجدها الله سبحانه وتعالى يوم خلق آدم عليه السلام، رسالة الأنبياء.
للصحافة دور كبير في تقدم المجتمع، وتشكيل الرأي العام حول القضايا الهامة، وما يجري من إنجازات وإخفاقات، وبيانها للشعب والمسئولين ومتخذي القرار على حد سواء؛ لنقل المعلومات الصحيحة التي تُظهر الحق، وتهدم الباطل، وتقمع الظلم ليسود العدل.
تعمل الصحافة على إبراز الأفكار والرؤى؛ من أجل النهوض بالبلاد في شتى المجالات، وتحافظ على القيم والأخلاق، وتسعى إلى تحقيق الاستقرار والتنمية في كل مناحي الحياة.
إنها نور يضئ الطريق، وتقدم المعرفة والحقيقة كاملة للشعب والحكومة، وتقول ما يمليه الضمير المهني، وتقدم موادها وفنونها بأسلوب معتدل لا شطط فيه ولا مغالاة. وتتوخي الصدق والحيدة التامة في العرض، ولا تبغي غير المصلحة العامة؛ فلا تؤمن بالتخمين ولا التكهن، بل الحقيقة التي ترشد الحكومة إلى مناطق الخلل والقصور، وتسلط الضوء على مشاكل الناس.
ولا تميل فنون الصحافة ورسالتها إلى المداهنة أو النفاق أو الغمز واللمز أو التجريح أو التشكيك، ولا تمارس الأكاذيب والأباطيل، بل التوضيح وانتزاع الأمة من كبوتها، وإيقاظ الضمائر وإعلاء الهمم، والسمو بالأرواح.
وقد سميت صاحبة الجلالة؛ لما لها من عظمة؛ كونها مهنة البحث عن الحقيقة، وكبرياء من حيث نزاهتها، فعندما تكشف فسادًا تهتز الدنيا من حولها، وتبقى هي شامخة شموخ الجريء الشريف. وعندما توصل معلومة هامة إلى القارئ، فإنها تقوم بعمل وطني وإنساني يحتاج إليه المجتمع؛ إذ لها دور كبير فى نشر الفكر والوعي، كما تعد من أرقي المهن؛ لأنها تخاطب العقول والضمائر.
ارتبطت الصحافة ارتباطًا وثيقاً بمشاكل وحياة الناس، باعتبار أن للشعب الحق في معرفة ما يدور في الحكومة، وما تقوم به الحكومة، وفي ذات الوقت تُعرِّف الحكومة بتوجه الشعب، وفيما يفكر، ومدى رضائه عن أدائها، فتقوم بالنقد البناء المعتمد على التحليل الموضوعي الذي يؤمن به الشعب ويسلم بحتمية الإصلاح والتغيير والتطور والتقدم.
ولذلك أقرت واعترفت كل دساتير العالم – بما فيها الدستور المصري- بمفهوم حرية الصحافة، وأهميتها، والقوانين الخاصة بها؛ لأنها توفر المعلومات وتوصل الرسائل المتبادلة بين الحكومة والشعب، وتطرح القضايا والمشاكل التي تواجهها الدولة، وتعرض ما تريد الحكومة تنفيذه لمعرفة رد فعل الجماهير؛ فهي تعمل على تقوية الأفكار وتبادلها لإحداث تفاعل بين الحاكم والمحكومين، وتشكيل الرأي العام.
هذا يعني أن حرية الصحافة تعد امتيازًا للدولة؛ لأنها تطرح أفكار وتوجهات الشعب، وتكشف عما يريد كل طرف من الآخر، حول مشكلة أو أزمة طارئة؛ وبذلك يكون الشعب إيجابيًا، يسعى إلى البناء، والمشاركة في العمل والإنتاج.
وعلي الرغم من مكانة الصحافة، إلا أن هناك من لا يدرك أهميتها في تقديم المعلومات والحقائق للدولة، وكشف مواضع قصور وإخفاقات الحكومة، وتنير لها الطريق، وتسلط الضوء على الداء لمعالجته؛ المر الذي يصب في صالح الدولة بكل مكوناتها.
وعندما يلتزم الصحفي بالضمير المهني وميثاق الشرف، يدرك أنه لا يكتب ليرضي المسئول، بل يكتب للشعب الذي يقرأ له ويتابعه؛ كونه يبحث عن الحقيقة وينشرها بحيادية تامة، باعتبار أنه مؤرخ الحاضر، والحارس على وعي الشعب.
من يعرف قيمة الكتابة ونعمة القلم؛ باعتبارهما من نعم الله، فلن يكتب الباطل أو يخط بالقلم كلمات نفاق أو كذب؛ لأن الله سبحانه وتعالي أقسم به في قوله:” (نٓ ۚ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ”، فالكتابة هي التقدم والخير والحق والجمال والمعرفة والإبداع المأمول والمستحيل والوصول إلى المجهول، وقول اليقين.
من يفهم الصحافة ورسالتها لا يميل إلى المداهنة والأساليب غير السوية في كتاباته، فمن يحمل القلم ويفهم بأنه تشريف وتكليف، يلتزم بالقيم المهنية وبالقسم الذي أقسمه عندما التحق بهذه المهنة.
هناك من يظنون أن الصحفيين هم حملة القلم، وأنهم يكتبون كلمات يرصونها بجوار بعضها البعض دون معني؛ أي كلام لا ينفع ولا يفيد؛ بدليل أن هناك مقالات لا يشعر بها أحد؛ بسبب انزلاق أصحابها إلى المصانعة والمدارة والمجاملة، ومدح المسئولين، والدخول إلى أرض النفاق لتحقيق الأغراض والمصالح؛ فأولئك لا يكتبون للشعب، وإنما يحكمهم الغرض والهوى؛ وبالتالي لا قيمة لكتاباتهم.
إنَّ مثل الصحفي كالطبيب الذي يعالج الجسد من الداء، فكما يجوز للطبيب تفحُص الجسد لمعرفة موضع الداء، يجوز للصحفي النظر إلى خفايا المشاكل وما يهم مصلحة البلاد؛ ليقف على أسبابها وطرح العلاج لها؛ كون الصحافة هي السلطة التي تراقب وتكتب عن أداء كل السلطات، وتبحث عن الحقائق، متجردة من الغرض والهوى، وتطرح ما يدور بموضوعية، وتحليل الحداث بأمانة؛ لكي تعطي صورة واضحة للشعب؛ حتى يستطيع الحكم والمشاركة بإيجابية.
الذي يعرف معني الكلمة، يؤمن بالحق والصراحة والوضوح، ويتحلى بالأمانة والجرأة فيما يكتب؛ أي يحترم ذاته قبل احترام القراء؛ لان الكتابة تُقيَّم بالدقة والصدق والحقيقة؛ وبذلك لا يخدع الصحفي ذاته ولا القراء، ولا يخشي المسئول، أو يلتمس الرضا من صاحب جاه، أو منصب، وقد يراه أصحاب المنافع متشائمًا ومبالِغًا فيما يكتب، ويراه الفريق الآخر مؤمنًا بقدرات الشعب، ويضع يده على الداء؛ مثل الجراح الذي يستخدم المشرط ليزيل أسباب المرض أو الألم.
بهذا يصل الصحفي إلى الجماهير، ويحتل مكانته في قلوبهم وعقولهم؛ لأنه يشاركهم كل حياتهم؛ إذ يقول الله تعالى: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..”
والمتابع لما ينشر في الصحف الآن، يرى غياب الكاتب الذي يطرح الأفكار لحل مشاكل وقضايا الدولة، وتصوير ما يدور في نفوس الشعب، وما يحيط به من مخاوف وآمال، والشعور بما يمر به الناس من عقبات لوضع حلول عملية لمساعدتهم على حلها.
تعج الصحف بكثير من الموضوعات، لكنها خالية من المضمون، كما أن ما فيها من معلومات بعيد عن الواقع الذي يعيشه الشعب، فعندما يقرأ القارئ مقالًا أو موضوعًا يجده مجرد كلمات مرصوصة؛ فحينها نشعر بالأسى على الكاتب؛ كونه ضيع وقته في كلمات لا يقرؤها أحد، متناسيًا ما أقسم به، وغاب عنه أنه سوف يُحاسب على ما خطت يمينه؛ لتخليه عن الالتزام بالضمير المهني وبرسالة المهنة.
وإذا شذَّ صحفي وانتقد أداء مسئول، فإنه يُواجه بهجوم كاسح من بعض القائمين على المهنة، غير مدركين أن النقد مكفول بحكم الدستور والقانون، ما دام في إطار النقد البناء، ويتضمن معلومات صحيحة، ويسير في طريق الحقيقة ويراعي الدقة والحياد والموضوعية.
ونسي هؤلاء أن هذه القيم، هي التي تتمتع بها مهنة الصحافة، غير مدركين أن النقد يهدف إلى معالجة المشاكل.
والملاحظ أن التقييم النقدي غاب من حياتنا الصحفية خلال الفترة الماضية، وكأن المسئولين معصومون من الأخطاء، فإذا انتقد صحفي أداء الحكومة، اتهم من صحفيين آخرين بأنه ضد الوطن، متجاهلين أن النقد ليس إلا تبصيرًا وتصحيحًا للأخطاء.
ومع غياب النقد وعدم الاهتمام بالموضوعات التي تهم الناس، فقدت الصحافة ما كانت تتمتع به في الماضي من تأثير وهيبة؛ لذا اتجه الناس إلى مواقع التواصل الاجتماعي، رغم أنها لا تتمتع غالبًا بالمصداقية، لكنهم وجدوا ضالتهم فيها؛ ما أدى إلى تراجع توزيع الصحف، وقلة الإعلانات، وانخفاض العوائد؛ بسبب غياب المضمون والمحتوى الذي يعمل لصالح المهنة والمصلحة العامة.
ولمن يزعم أن سبب تراجع الصحافة الورقية؛ هو التطور التكنولوجي، نقول لهم أنتم مخطئون، فهناك دول سبقتنا في التكنولوجيا بينما توزيع الصحف لديها يزيد باستمرار؛ فعلى سبيل المثال: يصل توزيع الصحف في الهند إلى نحو 320 مليون نسخة يوميًا، واليابان 70 مليون نسخة يوميًا، وألمانيا 18.3 مليون نسخة، والولايات المتحدة الأمريكية 55 مليون نسخة، بينما لا يتعدى توزيع الصحف في مصر 400 ألف نسخة يوميًا في بلد تعداد سكانها يتعدى مائة مليون نسمة!
لقد تراجع توزيع الصحف المصرية؛ لاعتمادها أيضًا على نشر البيانات التي تصدر عن الوزارات والمصالح الحكومية والمعدة وفق رؤية المسئولين؛ بدليل أن الأخبار والموضوعات التي تنشرها الصحف من نوعية واحدة؛ كالزي المدرسي الموحد، فإذا تابعنا عناوين الصحف وجدناها مثيرة للدهشة، وكلها تشمل تغطية واحدة، وكأن الأخبار والموضوعات موزعة عليها.
ومن يتابع ما ينشر في الصحف ويحلل المضمون، يجدها لا تتناول مشاكل الناس، ولا طرح قضاياهم، والعجيب أننا- نحن الصحفيين- نتساءل مع بعضنا البعض: لماذا تراجعت مهنتنا بهذه الصورة وفقدت بريقها؟!
لقد غابت المهنة عن الموضوعات الجادة، والمقالات المؤثرة، والحوارات المتميزة، والانفرادات والمتابعات؛ وذلك لعدة عوامل؛ منها: محاولات القائمين عليها إرضاء المسئولين، وكسب ودهم، والاستكانة، وعدم البحث عما يهم الشعب، وغياب وانخفاض الدخول، والتراجع المهني والقيمي والاقتصادي، وعوامل أخرى لدرجة أن بعض الناس ينظرون إلى ما يُنشر بالصحف على أنه لا يعبر عن الحقيقة، ولا يرتقي إلى الواقع؛ لذا فقدت مصداقيتها؛ بسبب الاهتمام فقط بتسويد الصفحات بكلام لا مضمون له، وعدم تعبيرها عن مطالب الشعب، وبعدها عن الواقع؛ ولهذا عزف الناس عنها.
الآن نتساءل: ألم يئنِ فتح ملف المهنة وإنقاذها، وإعادة هيكلتها، وتفعيل المواد الدستورية الخاصة بها؟!