رحلة إلى الجنوب اللبناني قامت بها وفاء كمال (6)

( سحمر ) قاع الدم الأول ( 6 )

أمضى الأمين وقتا طويلاً في منزل قريب له في أعلى الجبل. بانتظار ” زوبا “، ثم خرج باتجاه خزان المياه الكبير الذي ينتصب بين اأشجار التين والزيتون. لكنَّ ” زوبا ” تأخرت. فراح يدور حول الخزان تأخذه الهواجس والتساؤلات. حدَّث نفسه قائلاً: لاشك أن نورهان استغلت طيبة “سراب” كالعادة.. ترى هل بلَّغَتْ سراب زوبا بضرورة لقائها بي؟… هل مُنِعَت ” زوبا ” من الخروج ؟..لا..لا..هي تستطيع أن تتدبر أمرها جيداً. هل أخبرَتْها سراب ؟ هل لاحق رجالات الاحتلال “زوبا” وهي تتسلل لهذا المكان في وسط الظلمة؟


بدأ خوفه يتكاثر وقلقه يشتد كلما تذكر أن  “سراب” لطيبتها وبراءتها لاتحسن الكتمان..أخذ جبينه يتفصد عرقاً ، واشتد وجيب قلبه حيث لمح خيال “زوبا” تخفُّ إليه من بين الأشجار، وهي بكامل أناقتها المعتادة. كانت تحمل دلواً فارغاً وتوشِّح رأسها بمنديل أبيض يتدلى من جوانبه شعرها الأسود الفاحم. وانجلت إليه بقامتها الفارعة.
ـ اهلاً ” زوبا ” ..لقد قلقتُ عليكِ .
أجابته وهي ترتجف من الخوف والبرد :
ـ لقد رأتني “نورهان” وأنا أتجه إلى هذا المكان وأخشى أن تخبر عشيقها. لقد تسللتُ خلسة من المنزل ويجب أن أعود بسرعة قبل أن تكتشف أمي غيابي .
دسَّ بيدها رسالة وقال: إقرأيها وتصرفي.. تناولتها ودستها في صدرها ومضت مسرعة. وما إن دخلت غرفتها قرأت: (كرَّار أصيب باليرقان وعليكِ أن تُحْضِرِي من “الصل” أكياس مصل ومجموعة من الحقن والأدوية وتسلكي الطريق في سهل مشغرة باتجاه النهر وتمضي إلى المغارة (ح) وتركِّبي المصل المغذي لكرَّار . لاتتحدثي أمام سراب بهذه التفاصيل. فقد تأكدنا أن “نورهان” تلتقي بعشيقها في منزل خالتها هنية. أفهميها ذلك فقط ..يجب أن تبتعد عنها تماما .
أشعلت “زوبا” عود ثقاب وأحرقت الورقة. أما ” الأمين ” فعاد متسللأ بين الأشجار نحو النهر
وقد تملكَتْه رغبة للركض والغناء؛ لأنه كان واثقاً أن “زوبا” لن تفشل في مهمة أبداً. فهي ممرضة بارعة  إلى جانب كونها خيَّاطة .
ما إن وصل الأمين إلى ضفة النهر حتى أسند ظهره إلى جذع شجرة كبيرة ليرتاح قليلاً. وراح يعبث بسلك حديدي كان في يده. في حين أن عينيه الحادتين راحتا تراقبان نمسين كانا يلاحقان بعضهما. أخذ يحدِّث نفسه:
ـ (شو على بالكن ياعمي ؟ يلي صاححلكن مش صاحح لحدا ).
كان الأمين يشكل وحدة متماسكة مع حلول أول خيوط الظلام . فقد علَّمَتْه الطبيعة أشياء كثيرة فالكهوف التي اختارها هو وأصدقاؤه كملجأ وقائي مؤقت لعناصرهم، وعانوا الصعوبات ليقنعوا رفاقهم بالمكوث فيها، علَّمته علاقات كثيرة لم يعرفها في حياته العادية. وانفجرت شفتاه الرقيقتان عن ضحكة صامتة. كان يتذكر طريقة العبور إلى الكهف، فقد كان يقع إلى الجانب من منحدر عميق يصل إلى النهر حيث ترتطم المياه ضاربة بقوة جدار المنحدر ..مما يضطرالأمين في كثير من الأحيان إلى رفع السلاح في وجه رفاقه ضاحكاً ليضطرهم إلى النزول في هذا المنحدر ، بينما يسبقه كرّار والغزال .
تتسع البسمة في وجه الأمين فالغزال وجهه الآخر. كان دوماً يسبقهم ليربط القوارب المطاطية. بالطرف الثاني من النهر (متحملاً قوة المياه رغم نحولة جسده) . حتى يتسنى لهم الدخول للمغارة
كان الليل يسيطر على كل شيء والنهر يصخب بعنف ويرتطم بالصخور, والرعد يطعن صدر الظلمة بسيوف من الضوء. فيما يصل إلى الأمين صوت رفاقه كانوا يملؤون الثلج في صندوق الرصاص بعد أن أشعلوا النار تحته . فالغزال آه من الغزال… يريد ان يشرب شاياً وهاهو قد جهزَّ قواذف ال(ب ـ 7 ) الفارغة كأكواب وقد أخرج الغزال الأمين من تفكيره حين قال له (وهو يناوله كوب ال(ب ـ7) : إ نه لشاي لذيذ .ولكنه مطعَّم قليلاً بالشحم (خود شراب ..هذا الشاي بيخلي معدتك متل الرصاص) وأطلق ضحكة مدوِّية في حين ابتسم الأمين وغزت عينيه صورة الغزال وهو يركبُّ المصل لكرّار للمرة الثالثة ويفشل.
النهر يصخب مفجراً أمواجه على الصخور التي ترش الماء على الشاطئ وعلى وجه الأمين. فيعيد إليه الطفولة. وتنساب أوراق الأشجار وبعض الغصون والجذوع محدثة جلبة كبيرة وهي تصطدم بالموج الذي يرفعها ويلقيها على الصخر المدبب. كان الأمين يتابع بعينيه العسليتين جذع شجرة كبيرة ألقته الأمواج على الصخور, فعلق قسماً منه في ثيابه وشكَّل عاملاً مساعداً في الصخب . وكان يضطرب ويهتز مع حركة الموج . فلفت انتباهه ثعلب يركض بمحاذاة الضفَّة، راح يراقبه. فتوقف الثعلب على مسافة قصيرة من مدخل الكهف . تطلع حوله. كان الغزال وبعض الرفاق يجلسون قرب مجرى النهر بين الأشجار وحين لم يرَ الثعلب أحداً دخل في النهر .فحاول الأمين ضربه، فأشار إليه الغزال أن اتركه لنراقب ماذا يفعل؟ وحين غمرت المياه ساقي الثعلب نفض ذيله نحو رأسه وسحب بعضاً من صوفه ورفع رأسه نحو السماء والصوف في فمه . وتقدَّم داخل النهر خطوة خطوة حتى غمرت المياه عنقه ووصلت إلى فمه. ثم ترك الصوف عائماً على وجه الماء واستدار عائدا نحو ضفة النهر . ركض الأمين نحو الصوف العائم على وجه الماء فوجده مستعمرة للبراغيث والحشرات الصغيرة. فهز رأسه وهو يبتسم قائلاً : لقد كان يتحمم العكروت .
قال الغزال: الفرق بيننا وبين الثعلب أنه ترك البراغيث غذاء للأسماك، أما نحن فقد صارت رؤوسنا مقابر لها. لقد ملأ القمل رأسي. فلو خرجت من هنا لن أعود؛ لكنه توقف فجأة وقال: لقد اقتربت الساعة من العاشرة، وعلينا ان نمضي لتفقد كرَّار . ونجهز أنفسنا للعملية القادمة .
يتبع ….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى