مغادرة
عمر حمش / فلسطين
قبل الموتِ؛ حفرتُ حفرتي ..
أخترتُ موطن مأواي الأخير، ولقد راقني التعرف إليه.
شُدِه الحارس؛ حين علم أنّ تلك الحفرة ما هي إلا حفرتي، فباعد المسافة التي بيننا، وقد اتسعت عيناه، وعلا جبينه، حتى أيقن أنّ الأمرَ جديٌّ، وأنني لن أشجّ رأسَه بالفأس؛ وشرع بمناولتي آخر قطع البلاط.
نقدته ما في جيبي، وقلت: احفظ قبري يا أخي.
لم أترك الأمرَ عند هذا؛ بل غدوتُ أهرولُ خلف الجنازات، فأشاركهم الطقوسَ، وأتمعنُ في الوجوه، وأخمنُ من منهم؛ سيهرولُ خلف نعشي.
كنت أقول: شارك غيرك؛ غدا فيك يشتركون.
بعد الجنازاتِ؛ لم أكُ متعجلا في مبارحةِ المقبرة، بل في نهاياتِ كلّ مراسم؛ كنت أنزوي، فإذا ما غادر جمعٌ، وعاود الصمتُ؛ نهضتُ، ثمّ خطوتُ، وتتبعتُ المعالمَ، من شواهد، وشوكٍ، وشجيرات، حتى إذا ما وصلتُ؛ وقفتُ أمام قبري، وخشعتُ كمن يقف ببابِ وليّ .. فإذا ما صحوتُ؛ انثنيتُ، فنزعتُ بلاطتي، وقصدتُ مدخلي، ثمّ دلفتُ مخضعا رأسي، وتمددتُ على رملي؛ لأشرعَ في رحلةِ تشممِ رطوبةِ حفرتي، ومراقبةِ صغار الحشراتٍ المتهيئة، والمتلاحقة في صعودٍ، وفي هبوط على شقوقِ صفوف الطوب التي كنت رصصتها.
هكذا سار الأمرُ، وأنا أسبرُ غورَ القادم، وأرى جسدي المتمدّد، وأربطتي المنحلة على مواضع كفني.
كنتُ أظلّ على هذا ساعةً، فإذا ما ارتويتُ، واستكان قلبي؛ قمتُ متثاقلا، وخرجت راضيا، ثمّ أعدتُ بلاطتي، لأمضيَ نحو الحارس الذي يقدّم خطوةً، ويؤخرُ أخرى، وهو يلتقطُ دراهمي، ثمّ يفرُّ، ويلتفتُ، وأنا أغادرُ نافضا الرملَ العالقَ بجلبابي.
وسرعان ما حان حيني، فمِت آمنا؛ وقد مسّني حبورٌ، واكتنفتني غبطةٌ، وأخذتُ أرقبُ مراسمي.
كانوا يمرونَ صامتينَ بالقبور، وكنتُ من فوقهم أتأرجحُ، وأشيرُ، وأصيحُ:
من هنا .. من هنا .. كفى .. هنا.
ولكم كانت فجيعتي؛ وهم يتجاوزونَ قبري، والحارسُ يقفُ متنحيا، قربه رجلُ أنيقٌ مبتسم؛ يرمقُ تجهمي، ثمّ يخرجُ لسانه؛ ويحرّكه.