سيرة الخائفات في رواية (هروب الموناليزا) للشاعرة والروائية بلقيس حميد حسن

عليّ جبّار عطيّة | رئيس تحرير جريدة أوروك العراقية

إذا كان الكلام صفة المتكلم كما في الحكمة المعروفة فإنَّ الشاعرة والكاتبة بلقيس حميد حسن قد أعطت المفتاح للقارىء، وهو يقرأ روايتها الأولى (هروب الموناليزا- بوح قيثارة) الصادرة بطبعتها الثانية عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر في بغداد ٢٠١٥م؛ فقد وضعت عنواناً فرعياً للرواية تقول فيه: (فصلٌ من سيرةٍ ذاتيةٍ للكاتبة، ولنساء عرفتهنَّ في طريق الحياة) كما تقول في ص١٢ : (لستُ كاتبة روايةٍ، وقد لا أجيد فنها، إنَّما أنا امرأة رواية بوحٍ بما عانت وعانين مَنْ عرفتهنَّ لا أكثر ).


توجد قرائن أخرى على أنَّ الكاتبة إنَّما تتناول سيرتها الذاتية مازجةً التسجيلي  بالروائي منها :اهداؤها الرواية الى صديقتها الشهيدة (موناليزا أمين) التي استعارت اسمها الأول (موناليزا) اعتزازاً بها، وأسبغته على نفسها، فصار اسم الراوية (موناليزا سامي الخطيب)، وهي المرأة الحالمة الشاعرة التي تبدأ رحلتها في الواحدة من منتصف ليلة ١٩٧٩/١/١٠م، هي وجنينها، وزوجها فتصطدم بمنعها من السفر لأسباب أمنية، ويسافر زوجها، وتعود إلى بغداد لتبدأ محاولةً أخرى مُزوَّرةً للنجاة.
وهنا نجد تشابهاً بين حياة (موناليزا)، وكاتبة الرواية التي تقيم في هولندا وقد وضعت على عاتقها مهمة الدفاع عن المرأة في مجتمعٍ ذكوريٍّ يرى في ظلم النساء منهجاً للسيطرة (هكذا هم يريدوننا مظلوماتٍ ليحترمونا ) ص ١٩١ ولأنَّ الكاتبة مثقفةٌ ثقافةً حياتيةً عاليةً،  فإنَّ القارىء لروايتها لابدَّ أن يقرأ آراء عددٍ من المفكرين والكتاب المؤثرين في مسيرة البشرية فتنقل عن الشاعر الألماني غوته قوله ( وجدت كي أندهش) ص١٢، وعن أرسطو قوله: (العبد الحقيقي هو الذي لا يستطيع التصريح بآرائه) ص١٦ وعن (سارتر) قوله (الآخر هو وسيط بيني، وبين نفسي، وهو مفتاح لفهم ذاتي والاحساس بوجودي) ص ٤٥
ويُمكن القول إنَّ بطلة الرواية الرئيسة ليست (موناليزا)، بل هي (سومر) الشابة العاشقة التي تُكره على الزواج من ابن خالها العاجز عن القيام بوظائف، فيحصل الطلاق، وتسافر بحثاً عن حريتها لأنَّها تهوى الموسيقى، وتطور موهبتها لتصبح عازفةً يُشار لها بالبنان ، لكنَّ نقطة ضعفها تكمن في رومانسيتها، فترتبط برجلٍ أنانيّ متزوجٍ من طبيبةٍ أجنبيةٍ يعدها بقرةً حلوباً بينما يرتبط بـ ( سومر) بزواجٍ سريٍّ يُنتج طفلةً يظل مستقبلها مجهولاً..
تقول سومر: ( ما الذي أذنبته أنا ؟ أنا التي تُحب  بقدر ما تستطيع المنفية بسبب فني وأوتاري التي ما بعتها في زمنٍ بيع فيه كل شيء، العاشقة للحق، المتمردة  على كل الأعراف اللا إنسانية ، الزاهدة بالمال، المؤمنة بأنَّ الحب أثمن ما في الوجود. أمثلي تستحق  هذا) ص ١٠١.
تكتشف سومر بعد فوات الأوان أنَّ زوجها  مخادعٌ، يسمعها كلاماً شاعرياً رقيقاً يتبين أنَّه يستعيره من رواياتٍ يقرأها وهو – كحال الكثير من الرجال- يلعب على أكثر من حبل، وبالرغم من شخصية سومر القوية وانطلاقتها في عالم الفن الا أنها هشةٌ، وضعيفةٌ أمام زوجها الذي تتحدث عنه كحبيبٍ في كل بوحها حتى أنَّها تكاد أن تخسر روحها.. تنقل عن المفكر توماس مور قوله : (الداء الأعظم في القرن العشرين هو خسارة الروح، فعندما تهمل الروح، فإنَّها لا تغادر الجسم، بل تظهر على شكل استحواذات وسواسية، وادمانات، وعنف، وفقدان للمعنى، أما إذا لم تكرم قدرة الروح على الإبداع فسوف تسبب فوضى) ص ٢٥٠.
هذا التمهيد للنهاية التراجيدية للبطلة والضحية سومر يكون مناسباً لنتعرف إلى حادثة تفجير ثلاثة فنادق في عمّان يوم ٢٠٠٥/١١/٩ الذي قتل فيها  ٥٧ شخصاً منهم المخرج العالمي مصطفى العقاد وابنته، وكذلك كانت الضحية سومر وابنتها (لقاء) بينما كانت تمهد للعودة إلى بلدها، وقد تبنى التفجيرات تنظيم التوحيد والجهاد.
تجد في الرواية قصصاً ثانويةً لنساء ضحايا لمجتمعٍ ظالمٍ، ومنها قصة (نجية) التي اعتقلتها السلطات لهرب زوجها، ولم تعترف بمكانه، فعذبوها تعذيباً شديداً، ومات طفلها، ثمَّ سقوها سم الثاليوم لتقضي نحبها بعد يومين من اطلاق سراحها. ص ٣٠.
وهناك قصة الشابة (دويدة) المتخلفة عقلياً التي تعيش في الجنوب المنسي، وحين وجد أقاربها أنَّها حاملٌ تذكروها، فقتلوها غسلاً للعار. ص١٥٨.
كذلك  قتل ابن العم (نورية) تلك القروية البسيطة؛ لأنَّها  حملت سفاحاً من أحد المتعلمين الباحثين عن ضحايا، وقد أمن العقاب.ص ١٦٧.
أما القصة المؤثرة حقاً فهي قصة (عدالة) العمياء المرأة الأربعينية التي خافت الكاتبة من عينيها في طفولتها؛ لأنَّهما بيضاوان بلا سواد، وبلا مقلتين.
يتردد على عدالة في بيتها ابن عمها السكير، ويزرع في رحمها طفلاً لا شرعياً، ثمَّ يتركها ليخطب المعلمة (ذكرى)، وحين تسمع عدالة بعزم ابن عمها على الزواج تصر على إخبار ذكرى بما جرى بينها وبينه  فترفض ذكرى الزواج منه في الليلة نفسها التي تزف فيها إليها، بل تقرر الإضراب عن الزواج مدى الحياة كردة فعلٍ، لكنَّ الضحية عدالة تتلقى طعنات سكين انتقاماً لشرف العائلة المزيف.
وسط هذا الجو القاتم ثمة بقع ضوء غير متوقعة منها : موقف ضابط الجوازات الشهم(أبي صفوان) الذي تعاطف مع موناليزا، وآواها في بيته حتى صباح اليوم التالي، وهناك قصة المعلم محمود الذي أحب فتاةً أُصيبت بالسل الرئوي فترك التعليم، وعمل حارساً في مستشفى السل؛ ليتابع حالة حبيبته، حتى موتها. ص٢٠٣.
ليست النساء هنَّ ضحايا هذا المجتمع الظالم بل الرجال أيضاً، كما في قصة (عطشان) الأعور الذي سجن خمس سنوات عام ١٩٦٣م، بتهمة قوله جملة (الطبقة العاملة)، وحين خرج من السجن كان مشوهاً، ومثقوب اليد. ص٣١.
على مدى نحو (٢٨٠) صفحة من القطع المتوسط حفلت الرواية بلغةٍ شعريةٍ تنساب بعذوبةٍ تنم عن تمكن الكاتبة من أدواتها، ورؤيتها الواعية للحياة.
تقول : (العشق كرمٌ في الروح، وهو أعلى أنواع الكرم، بالحب وحده قد أمنح عيناً من عيني لحبيبي، وقد أفديه بحياتي) ص٥٥.
تقول في موضعٍ آخر :  (حينما رأيتُ أوربا أول مرة في حياتي، بهرت، وجدت كل شيءٍ منظماً، وكل شيءٍ مرتباً، والإنسان وجدته حراً آمناً سعيداً.
كنت أعجب من جهلنا بسعادة هذه البلدان،
و أستغرب كيف غرسوا بأدمغتنا كل تلك الأكاذيب عن أوربا، لماذا كانوا يزورون الحقائق؟
لصالح مَنْ؟… آهٍ يا شعوبنا المقهورة، الفقيرة، النائمة على حرير الوهم، شعوبنا المستعبدة، والتي تُقبّل أيادي السلاطين، والملوك، والرؤساء. شعوبنا التي ترقد على بحار من البترول، والذهب، والخيرات، وتجوع..) ص٤٦.
و(لو كان النخيل في أوربا لاكتملت الجنة) ص٤٦.
تستشهد الكاتبة بقول جاكوب جوست (عندما تتوقف القدرة على الكلام تبدأ الموسيقى)ص١٤٣.
وتورد على لسان الضحية سومر قولها : ( لو أردت أن تعرف مقدار رقي أمة من الأمم فاستمع إلى موسيقاها) ص٩٠.
ونجد تحليلاً سايكولوجياً جيداً فهي تقول عن الخوف :  (إنَّه أكبر دافع للكذب) ص١١٦، (علمني الخوف أن أكذب) ص١١٦.
(إنَّ أحد أسباب تخلفنا هو الخوف، الخوف من الأنظمة، الخوف من التقاليد، الخوف من الأهل، الخوف من الفشل، الخوف من الحرام، الخوف من أي شيء، كل شيءٍ نلبسه صورة الشبح، وترتعد فرائصنا منه، يربك حياتنا، ويولد مخاوف أُخرى، أكبر وأفظع، تفقدنا إيجاد الحلول فنضيع) ص١١٧.
(كان الخوف ينصّب نفسه قائداً بطلاً في كل تحركاتنا، وفي كل لحظاتنا حتى السعيدة منها) ص ١١٨.
إذن تكرار مفردة الخوف هو بيان لاشكالية محنة الكاتبة التي لخَّصت في روايتها  ـ التي وعدت بإكمال فصل آخر منها في رواية أخرى ـ
تلك المحنة المستمرة التي أوصلتها إلى بلاد المهجر.. تقول : (كان أبي ينطلق من فلسفةٍ خاصةٍ به مفادها أنَّ الفقراء أحرار، وهم أغنياء بهذه الحرية، وإنَّ الأغنياء هم الفقراء، وهم عبيد المال دوماً وأبداً، وكثيراً ما كان يردد أمام أمي، وهو يتحدث عن الأغنياء قائلاً : لا تغرنكِ ممتلكاتهم، فهي، مهما عظمت، لا تكسبهم حب الناس، ولا احترامهم، كان أبي، وهو يتحدث هكذا عن الأغنياء إنما يعطف عليهم، بل يسميهم بالمساكين) ص١٢٩.
لقد نجحت الكاتبة في توجيه رسالةٍ قوية المضامين، و الدلالات إلى مجتمع الرجال، وقد أوردت قول (تاير جاستون) : (لو كان من المستطاع أن نوصل بالكلام ما يسهل أن نوصله بالموسيقى، لما كانت هناك حاجة إلى الموسيقى) ص ١٤١.
وهي تطمع أكثر في الحل فالمثل الإنكليزي يقول : (ليس المهم أن تعرف سبب الدموع، لكن المهم أن تعرف كيف تمسحها) ص٢٣.
*(هروب الموناليزا)، رواية للشاعرة والروائية بلقيس حميد حسن، الطبعة الثانية، دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع ـ بغداد ٢٠١٥َ
عدد صفحات الرواية ٢٨٠ صفحة من القطع المتوسط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى