الكسوف والعلم والخوف
أ.د. عنتر صلحي | جامعة جنوب الوادي – مصر
بمناسبة حدوث كسوف الشمس صباح اليوم 21 يونيو، سألني أحد الأصدقاء: “ما الحاجة إلى صلاة الكسوف والخسوف في عصرنا الذي تقدم فيه العلم وصرنا نستطيع حساب أوقات حدوث هذه الظاهرة بدقة بفضل المراصد الفلكية، ولم يعد هناك خوف من أن تختفي الشمس كما كان شائعا في العصور الأولى؟”
وفي ردي على هذا السؤال، أتتبع منهج التفكيك والتفنيد قبل الرد، فأقول – بعون الله تعالى:
أولا: محركات الأفكار:
إن من يسال هذا السؤال يحركه إعجابه بالفكر الغربي، ويعكس كلامه -كما يكون الدكتور إبراهيم السكران- نفسا معجونة بالانكسار للعلوم الغربية المعاصرة واعتبارها مطلقات لا تقبل المخالفة. فهو يرى أن العصر الحالي هو عصر التقدم في العلوم، فلم نر مثل هذا التقدم -الذي في ذهنه يجب أن يكون النموذج – في العلوم الدينية؟ وبالتالي فالإجابة على السؤال تقتضي مناقشة أمرين: التطور العلمي لمعرفة مواعيد الكسوف، والأساس التشريعي لصلاة الكسوف.
هل فعلا لم نكن نعرف مواعيد الكسوف؟
إن طرح السؤال بهذه الطريقة يشي برؤية ساذجة للماضي وأهله، تراهم من البدائيين الذين يخافون اختفاء الشمس بلا عودة أو غياب القمر وانعدام النور، ويستدعي للذهن مشاهد أفلام رعاة البقر الغربية وأفلام المستشرقين التي تتعامل مع الشعوب غير الغربية بالدونية والحط من قدراتهم، وفي رواية هنري ريدار هاجارد، كنوز الملك سليمان استخدم الغربيون البيض المستكشفون علمهم بمواعيد الكسوف ليوحوا للبدائيين الأفارقة السود بأن بإمكانهم “خطف” الشمس ما لم يطيعوهم.
لكن الحقيقة هي أن العلم بمواعيد الكسوف والخسوف علم رياضي وفلكي قديم جدا، ومعروف لدى كثير من الأمم. وأقدم ما نعرف في هذا ما ذكره هيرودوت قبل الميلاد، ثم كتاب بطليموس سنة 150 ميلادية الذي ترجم في عصر المأمون وسماه العرب “المجسطي”، ثم شرح وكتب عنه ابن رشد وابن حزم وحتى ابن تيمية.
وبالتالي فالعلم بالمواعيد الدقيقة لأوقات الكسوف والخسوف معروف منذ القدم بل حتى قبل دين الإسلام، وكان له أهله من علماء الفلك والرياضيات بين العرب وغيرهم، ولا تكاد تختلف كلمتهم حول هذه الأوقات. وهذا يعني أن معرفة الكسوف والخسوف قبل أوانه ليس أمرا جديدا منحتنا إياه الحضارة الغربية العلمية المادية.
ثانيا: سبب الظاهرة وحكمة الظاهرة:
لماذا شرعت صلاة الكسوف؟ يقول الله سبحانه وتعالى: “وما نرسل بالآيات إلا تخويفا”. إذن هناك فرق بين سبب الظاهرة وحكمة الظاهرة؛ فالأسباب تمضي بقوانين ونواميس كونية شبه ثابته، يمكن حسابها والتنبؤ بها والاستعداد لها، أما الحكمة فهي ما تبلغنا به النصوص الدينية، ولا تعارض بين هذا وذاك. فإن الله تعالى قدر الكسوف بأسباب حسية، لكن تقديره لهذه الأسباب له حكمة وغاية اقتضتها، وهي تخويف الله تعالى لعباده، كما أن الصواعق والعواصف والزلازل المدمرة لها أسباب حسية معلومة عند أهل الخبرة، والله تعالى يرسلها ليخوف بها العباد. والله سبحانه يذكرنا بنعمه في قوله تعالى: “هو الذي جعل الشمس ضياءا والقمر نورا”، فإذا رأينا أن هذا النور يذهب ضوؤه بشكل مهيب تذكرنا ذهاب هذا النور يوم القيامة “إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت”، فيفزع الناس للصلاة.
ثالثا: هل المعرفة المسبقة تمنع الانفعال؟
إن القول بأننا ما دمنا نعرف مسبقا بالظاهرة فلن ننفعل بالخوف، قول مجاف لطبيعة الأشياء. فالإنسان يعرف الموعد المرتقب لولادة ابنه مثلا، ولكن هذه المعرفة لا تمنعه من إظهار فرط الفرحة بميلاده والبهجة بذلك عندما يحدث، ومن علم أنه يفارق أحبابه في يوم معين، يظل يستمتع معهم حتى إذا جاء يوم الفراق – الذي يعرفه مسبقا- هاجت القلوب وذرفت العيون واهتزت المشاعر للفراق. فالمعرفة المسبقة لا تلغي هول الحدث ذاته.
رابعا : معنى التجديد:
جانب آخر من السؤال يشي بضرورة تجديد الدين لتحصيل التقدم في الحياة، ومصطلح التجديد ملتبس ههنا؛ فالتجديد في العوم الطبيعية يعني الانفلات من التقليدية ومفارقة الماضي، أما التجديد في العلوم الدينية فيعني الرجوع إلى الأصول والكشف عن أسرارها ومكنوناتها. ولنأخذ مثالا باثنين من كبار المجددين: أينشتاين والإمام الشافعي؛ الأول كان تجديده وإبداعه في العلوم الطبيعية، والثاني كان إبداعه وتجديده في أصول الفقه. أينشتاين كان كل همه أن يتجاوز مفاهيم عصره ويبتكر نظريات غير معروفة، أما الشافعي فكان همه أن يسترجع المفاهيم السابقة وينفض عنها الغبار، ويتتبع أي مفاهيم مستحدثة ويفندها. وكلا الرجلين موضع احترام ورمزية بسبب المنهج المتبع: فنحن نحترم الشافعي لأنه يعود بنا إلى المفاهيم الشرعية الأصلية، ونحترم علم أينشتاين لأنه أخرجنا من المفاهيم التقليدية. وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على هذين المنهجين، فقال ففي العلوم المدنية (أنتم أعلم بأمر دنياكم)، وفي العلوم الشرعية يقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”.
والله أعلم.