أهم مراحل تطور قانون الأحوال الشخصية في مصر
د. يسرا شعبان | القاهرة
مر قانون الأحوال الشخصية في مصر بمراحل مختلفة، وقد عانى فيها من فوضى قضائية واجتماعية. كما أن له خصوصية تظهر في الاختصاص القضائي لهذه القضايا.
بادئ ذي بدء، مصطلح الأحوال الشخصية ورد لأول مرة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في الفقه الإيطالي. وذلك حين كان هذا الفقه يبحث مشكلة تنازع القوانين وهما القانون الروماني باعتباره القانون العام الذي يحكم كل أقاليم إيطاليا وأسموه بال ‘’ قانون’’، والقانون المحلي الذي يحكم حدود إقليم معين وأسموا هذا القانون بال ‘’حال’’. ومن هنا جاء اصطلاح الأحوال الشخصية، خصوصاً أن الأحوال التي تخص الأشخاص القانونية منها الشخصية ومنها المالية أو العينية. وعرفت محكمة النقض المصرية لأول مرة مصطلح الأحوال الشخصية سنة ١٩٣٤ واعتبرته مجموعة ما يتميز به الإنسان عن غيره من الصفات الطبيعية أو العائلية التي رتب القانون عليها أثراً قانونياً في حياته الاجتماعية ككون الإنسان ذكراً أو أنثى، وكونه زوجاً، أو أرملاً، أو مطلقاً، أو ابناً شرعياً، أو كونه تام الأهلية ،أو ناقصها لصغر السن أو عته أو جنون، أو كونه مطلق الأهلية أو مقيدها بسبب من أسبابها القانونية. وتجدر الإشارة إلى أن الأحوال الشخصية تتضمن قسمين رئيسيين هما الولاية على النفس والولاية على المال.
أما مصطلح الأحوال الشخصية بتصوره قانوناً أو كوداً أو مجلة لم يكن يعرف قبل مطلع القرن العشرين. وبفضل العلامة المصري محمد قدري باشا قد شاع هذا المصطلح في سائر الأقطار العربية والإسلامية. فهو أول من ألف كتاباً في هذا الخصوص و أسماه» الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية « . وقدم قدري باشا كوداً أو تقنيناً يجمع كافة الأحكام التي تخص الأحوال الشخصية للمسلمين وصاغها في صورة مواد. فعرف ونظم، على سبيل المثال، الخطبة، النكاح وأركانه، موانعه، الوعد بالنكاح، واجبات كلا الزوجين، وكذلك الطلاق وأحكامه، النفقة، الحضانة، الرضاعة، إلخ… فكان إنتاجه فريداً في حد ذاته لما يجمعه من كافة الأمور التي تخص الأحوال الشخصية للمسلمين في كتاب ومكان واحد.
كان يتولى القضاء، قبل ١٨٧٥، كل من المحاكم الشرعية، المحاكم الملية والمحاكم القنصلية ومجالس الأحكام. كما أن رجال الإدارة كانوا يتمتعون بسلطات واسعة للفصل في المنازعات.
أما بقدوم عام ١٨٧٥ الذي أنشأت فيه المحاكم المختلطة les tribunaux mixtes ، كانت هذه المحاكم مختصة بالفصل في النزاعات بين المصريين والأجانب أو بين الأجانب من جنسيات مختلفة. وفي تلك الآونة عمل قدري باشا، سنة ١٨٨١، على إصدار قانون خاص بالأحوال الشخصية، حين تولى ترجمة قوانين المحاكم المختلطة تمهيداً لوضع قوانين المحاكم الأهلية الجديدة التي أراد الخديوي إسماعيل أن يجعلها مكملة للمحاكم المختلطة بعد أن وجد أن القضاء الشرعي لا يزال خاضعاً لنظام الدولة العثمانية ولا يساير نزعة الإصلاح الذي كان يسعى إليها الخديوي إسماعيل بخطوات واسعة. لكن هذا القانون أو بالأحرى مشروع القانون، لم ير النور أبداً في يوم من الأيام. وتلا ذلك بالفعل، إنشاء المحاكم الأهلية، عام ١٨٨٣. لكن قرر المشرع المصري أن لكل فرد أن يعامل بقانونه الشخصي سماوياً كان أو وضعياً أي بحسب الديانة أو الجنسية. فالأجانب كانوا يخضعون لقنصلياتهم فيما يتعلق بالقضاء في مسائل الأحوال الشخصية والمصريون كانوا يخضعون للمحاكم الشرعية إذا كانوا من المسلمين، وأما غير المسلمين فكانوا يخضعون لمحاكم طوائفهم.
وظل الوضع كذلك حتى ١٤ أكتوبر ١٩٤٩ حين ألغيت رسمياً الامتيازات الأجنبية وألغيت المحاكم المختلطة والمحاكم القنصلية وذلك بعد عقد اتفاقية مونترو سنة ١٩٣٧. وبذلك لم يبق إلا المحاكم الأهلية أو الوطنية والتي تعرف الآن بالقضاء العادي، والمحاكم الشرعية للمسلمين والمجالس الملية لغير المسلمين.
ونفهم من ذلك أن مسائل الأحوال الشخصية ظلت تتميز بمسحة دينية ولم يحدث التوحيد القضائي والقانوني إلا رويداً ولاحقاً في عام ١٩٥٥ عندما صدر قانون رقم ٤٦٢ لسنة ١٩٥٥ وتقرر إلغاء المحاكم الشرعية والمجالس المحلية وإحالة اختصاصاتها إلى المحاكم الوطنية اعتباراً من أول يناير سنة ١٩٥٦.
ثم صدر قانون ١ لسنة ٢٠٠٠ في ٢٩ من يناير ٢٠٠٠ بشأن تنظيم بعض أوضاع وإجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية. وهذا يعني أن إجراءات دعاوى الأحوال الشخصية تخضع إجرائياً لقانون المرافعات في المواد المدنية والتجارية إذا خلا القانون رقم قانون ١ لسنة ٢٠٠٠ من نص خاص يحكم الشكل والإجراءات. وصدر القانون رقم ١١ لسنة ٢٠٠٤ بشأن محاكم الأسرة في مصر وأصبحت محاكم الأسرة هي المختصة بنظر منازعات الأسرة سواء للمسلمين أو لغيرهم. وهذا الاختصاص اختصاص نوعي لا تشارك فيه محاكم الأسرة أي محكمة أخرى.
وإنه لجدير بالذكر أنه إذا لم يوجد نص وجب الرجوع إلى أرجح الأقوال في مذهب أبي حنيفة النعمان. أما مسائل الأحوال الشخصية لغير المسلمين فتخضع من حيث الشكل والإجراءات لقانون المرافعات وتخضع من حيث الموضوع لشريعتهم الخاصة وذلك كما نصت الفقرة الثانية من المادة رقم ٣ لقانون رقم ١ لسنة ٢٠٠٠.
أما عن طبيعة القواعد القانونية المرتبطة بالأحوال الشخصية، فالكثير منها يحقق مصلحة عامة وتعتبر في أغلبها من النظام العام. بمعنى أنه لا يجوز للأفراد تعديلها باتفاقات فيما بينهم، ولا يجوز الاتفاق على مخالفتها. مثال ذلك، لا يجوز الاتفاق فيما بين الزوجين على تعديل ما للزوج من حقوق كالأمانة الزوجية، أو يتنازل الزوج المسلم عن حقه في الطلاق. أو تعديل ما للزوجة من حقوق على زوجها من نفقة ورعاية.
وكذلك الحقوق والواجبات التي تنشأ من الأبوة تعتبر من قواعد النظام العام التي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها. فالأب له حق تربية أولاده، ولا يجوز له أن يقيد نفسه باتفاق يحدد طريقة تربية أولاده مثلاً.
ونخلص من ذلك أن الموقف الحالي لتشريعات الأحوال الشخصية في مصر، يقضي بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في علاقات الأحوال الشخصية للمسلمين من المصريين. وبالنسبة إلى غير المصريين فتطبق أحكام شرائعهم الطائفية متى توافرت الشروط المنصوص عليها في المادة السادسة من قانون ١٩٥٥. وتطبق أحكام الشريعة الإسلامية على مسائل الأحوال الشخصية للمصريين غير المسلمين متى تخلف شرط من الشروط المنصوص عليها وخصوصاً اختلاف بعضهم في الملة والطائفة.
تقدم مصر في الوقت الحالي، مشروع قانون للأحوال الشخصية، وهو حالياً قيد البحث والدراسة. ويتضمن مشروع القانون عدداً من النقاط والمسائل الشائكة، والتي ظلت محل نزاع في المجتمع المصري. حيث تناقش لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب، المشروع المقدم من الحكومة بشأن قانون الأحوال الشخصية، بعد إحالته من المجلس إلى اللجنة. فالموافقة على هذا المشروع مرهونة بمناقشة النواب إياه في البرلمان المصري. ولسرعة إنجاز هذه المهمة، تقرر، في يونيو الماضي ٢٠٢٢، تشكيل لجنة من الخبرات القانونية والقضائية المختصة في قضايا ومحاكم الأسرة لإعداد مشروع قانون الأحوال الشخصية يضمن حقوق جميع الأطراف المعنية وذلك بتوجيهات رئاسية.
* عضو هيئة التدريس القانون المدني بكلية الحقوق – جامعة عين شمس
عضو مبادرة معاً لحماية الأسرة المصرية