مقال

عبد العزيز الثعالبي.. أعظم خطيب عربي في هذا القرن

الكاتبة  الصحفية شيرين أبوخيشه/  القاهرة

“فلِيكن الهم الأول لكل مسلم فينا هو التفكير في كيفية استرجاع مجد هذه الأمة ثم العمل على تحقيق ذلك بالفعل”
(الثعالبي في مؤتمر القدس)

ليس عندي مثقال ذرة من خردل من شكٍ أنه لو كان في زماننا عشرة فقط من نفس طينة الثعالبى لتغير وضع المسلمين رأسًا على عقب فالثعالبي كان رجلًا بأمة حمل على عاتقه مسؤولية إعادة مجد بلاده من دون أن ينتظر مساعدة من أي إنسان فلقد كان الثعالبي يسافر بين قفار الأرض وبحارها وكأنه أحد البواسل الذين طافوا فيافي الأرض بأكملها والبداية تبدأ في يومٍ من أيام سنة ١٨٨١ م حينها افتقدت إحدى الأمهات التونسيات طفلَها الصغير فأخذت تفتش عليه في شوارع “تونس”حتى وجدته جالسًا لوحده على الرمال الناعمة لشواطئ تونس فما إن رأت تلك المرأة الصالحة طفلها الذي لم يتجاوز السابعة من عمره حتى هرعت إليه لتضمه إلى صدرها بلهفة الأم ولكنها تعجبت من دموعه الغزيرة التي تبلل قسمات وجهه الصغيرعندها ظنت الأم أن أحدًا من الأطفال قام بضرب صغيرها فسألته عن سر بكائه فنظر الطفل الصغير إلى أمه والدموع تتساقط من عينيه ليقول لها بصوتٍ ملائكي “يا أمي. . . لم يضربني أحد ولكن ألا ترين الفرنسيين يدخلون إلى بلادنا إنهم يحتلون تونس. . . . ولن يرحلوا عنها إلا إذا حاربناهم “كانت هذه اللحظة الإنسانية الفارقة في حياة هذه الطفل ذي السبع سنوات هي لحظة ميلاد جديدة لأسطورة القائد المجاهد عبد العزيز الثعالبي فمنذ ذلك الموقف الذي مر به في طفولته حمل عبد العزيز همَّ تحرير تونس من الفرنسيين ليتحول هذا الطفل الشجاع إلى شابٍ مناضل حمل راية الكفاح في بلاده ضد جنرالات فرنسا الذين احتلوا تونس بنفس الحجة المستهلكة التي يستخدمها الغزاة في كل زمان “نشر الحضارة والقضاء على الرجعية ” ولكن الشيء الذي لا يعرفه الكثيرون أن تونس في ذلك الوقت كانت بلادًا مزدهرة علميًا وحضاريًا فقد كانت تونس في ذلك الوقت قد خطت خطوات ثابتة إلى الحضارة والعمران على يد خير الدين التونسي و الشيخ محمود قابادو و لكن ذلك لم يدم إذ سرعان ما سقطت البلاد في قبضة الفرنسيين إثر مناوشات قبلية حدودية بين تونس والجزائر اتخذتها فرنسا ذريعة لاحتلال تونس ومن ثم إعلان الحماية عليها وعلى إثر ذلك عينت فرنسا فرنسيًا مستعربًا يدعي لويس ماشويل رئيسًا لإدارة المعارف وأطلقت يده في البلد فاستولى على كل ما له علاقة بالتعليم والثقافة ليغير نظام التعليم الإسلامي في “الجامعة الزيتونية”ويضع قوانين تقدم الفرنسية على العربية في مناهج التدريس فأوقف بذلك النهضة العلمية في الزيتونة التي كانت قد جمعت آنذاك بين العلوم الشرعية والعصريةثم قامت فرنسا بتقييد الحريات المدنية للتونسيين وحولت الإدارة إلى النظم الفرنسية وجعلت اللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية في البلاد وأهملت المؤسسات التي خطت خطوات متقدمة في الطريق إلى الحضارة والعمران كـ “الزيتونة” و”مدرسة باردو الحربية” التي جمعت بين العلوم العسكرية والهندسية والرياضية وكان غياب خير الدين التونسي عن تونس مؤثرًا في الروح المعنوية لأهلهافقد استقال من الوزارة قبل الاحتلال الفرنسي لتونس وصار صدرًا أعظم رئيسًا للوزراء في الدولة العثمانية وبقي عندها برز إلى الساحة الشيخ سالم بوحاجب و البشير بن مصطفى صفر فأسسا معًا جمعية سموها “الحاضرة” وأصدروا جريدة أسبوعية لها الإسم نفسه ومن ثم أسَّسا “المدرسة الخلدونية” سنة ١٨٩٦ م وفي تلك المدة برز الشيخ عبد العزيز الثعالبي الذي ولد سنة ١٢٩٣ هـ ١٨٧٤ م في تونس وهو من أصول جزائرية فاهتم به جده المجاهد عبد الرحمن الثعالبي الذي قاوم الفرنسيين في الجزائر فقام على تعليمه وتحفيظه القرآن ومبادئ النحو والعقيدة ولما تألف في تونس “الحزب الوطني” الذي كان أول حزب يطالب بتحرير تونس سنة ١٨٩٥ م انضم إليه الثعالبي قبل أن يؤسس بنفسه “الحزب الوطني الإسلامي”فأسس جريدة “سبيل الرشاد” التي إستمرت عامًا قبل أن توقف وهنا رأى الثعالبي أن تونس ضاقت عليه فقرر الخروج منها فخرج منها إلى عاصمة الخلافة “إسطانبول” عن طريق اليونان وبلغاريا فوصلها سنة ١٨٩٨ م وتحدث مع رجال الدولة العثمانية وناقشهم في القضية التونسية ثم عاد إلى تونس فوصلها سنة ١٩٠٢ م بعد أن بقي أربع سنوات خارجها فوجد أن الفرنسيين قد شجعوا الفكر الصوفي بما يحمله من خمول ودروشة فأخذ الشيخ الثعالبي يقاوم أفكار هذا الفكر المصطنع ويدعو الناس إلى دعاء اللَّه وحده وترك التبرك بالقبور والأولياء الأحياء منهم والأموات فرأت فرنسا أن ما يدعو إليه الثعالبي من الرجوع إلى القرآن والسنة يمثل خطرًا على استمرارهم في تونس فقبضوا عليه سنة ١٩٠٦ م ووضعوه في السجن بتهمة “محاربته للأولياء” بعد أن رفع علماء الصوفية المتعاملين مع الاحتلال الفرنسي أعلامًا بيضاء عليها عبارة بالفرنسية “اقتلوا الثعالبي الكافر “ولما احتلت إيطاليا ليبيا سنة ١٩١١ م حاول الثعالبي مساعدة المجاهدين وإرسال المساعدات لهم فنقم عليه الفرنسيون صنيعه فقبضوا عليه مرة أخرى سنة ١٩١٢ م وأخرجوه خارج البلادفأضربت البلاد وأصر الشعب على رجوعه فعاد الشيخ الثعالبي إلى تونس سنة ١٩١٤ ليظل يعمل في مجالات الإصلاح إلى أن اعتقل سنة ١٩٢٠ م حتى سُجن قبل أن يخرج من البلاد سنة ١٩٢٣ م فغادر تونس إلى إيطاليا ففرنساثم إلى مصر فالحجاز ثم استقر به المقام في العراق حيث أصبح أستاذًا في جامعات بغداد منذ سنة ١٩٢٥ م إلى سنة ١٩٣٠ م ولما رأى العراقيون فصاحته المنقطعة النظير انتدبه العراق للإشراف على البعثة الطلابية العراقية إلى مصر فمثّل العراق في “مؤتمر الخلافة” بمصر سنة ١٩٢٥ م الذي دعا إليه شيخ الأزهر عقب إسقاط الخلافةثم ترك الثعالبي العراق إلى مصر ومنها سافر إلى الصين وسنغافورة وبورما والهند فأخذ يدعو الناس إلى الإسلام فدرس حالة المنبوذين من الهندوس فكتب في الصحف أن الحل الوحيد لمشكلتهم هي في الإسلام فأسلم الآلاف من الهنود على يده قبل أن يعود إلى تونس للمرة الأخيرة حيث استقبل استقبالًا حافلًا من الشعب التونسي المسلم فأخذ الشيخ الثعالبي يجاهد الفرنسيين
وأدرك حينها قيمه العمل السياسي و كيف يقودونه حسب المصالح الوطنية العليا لا حسب العواطف والانفعالات والحماسةوكانت أعظم وسيلة في دعاية الحزب الاجتماعات العامة التي اتخذت قوالب متنوعة وانقسمت إلى أصناف متعددة فتبتدئ عادة باتصال بعض الدعاة اتصالًا فرديًّا بالقرية أو المدينة أو الجهة لفحصها واختيار بعض الوطنيين بها يكونون كالنواة للعمل المقبل ويجمعون حولهم كتلًا صغيرة يجتمع بهم ذلك الداعية وبعد أن يتم ذلك العمل الذي يتطلب أسابيع وشهورًا أحيانًا يشرع الحزب في إجتماعات أوسع يرسل لها بعض خطبائه المفوهين مصحوبًا بأخصائيين في التنظيم يشتغلون بعد الإجتماع بتوثيق الروابط وإدخال الترتيبات الحزبية واختيار المسئولين على قيادة الحركة في تلك الجهة اختيارًا مؤقتًا وعندما يتم التمهيد وتتكون المؤسسات الحزبية ويتهيأ الجو إذ ذاك يقصد أحد القادة تلك الجهة فيبلغ أنصار الحزب ودعاته ذلك الخبر إلى القاصي والداني ويبثونه في الأسواق والبوادي وتزين المدن والقرى بالأعلام ويهيأ في الغالب طقم الموسيقى وفي الميعاد المضروب تخرج عشرات السيارات لتستقبل الزعيم في الطريق على بعد عشرون كيلومترًا من مقر الإجتماع ويجتمع السكان خارج المدينة ويصطف قسم من الشباب الدستوري على حافتي الطريق ويذهب قسم آخر منه على الدراجات النارية ليلتفوا بسيارة الزعيم وما أن يظهر وسط الطريق حتى تتعالى الهتافات باستقلال تونس وبالجهاد في سبيلها وتعزف الموسيقى الألحان القومية وتصدح الشبيبة الدستورية بالأناشيد الوطنية وتتبعها الجماهير ويدخل الزعيم إلى المدينة تحت الأعلام الخفاقة وسط الجماهير المتحمسة والنساء المزغردات. وما أن يأخذ مكانه فوق منصة الخطابة وحوله من الرجال المسئولون على الحركة حتى تهدأ الأصوات فيصبح ذلك الجم الغفير من الشعب الذي جمع الغني والفقير والمرأة والرجل والشاب والشيخ والعالم والجاهل في صعيد واحد كأن على رءوسهم الطير ويبدأ الاجتماع بتلاوة آيات الذكر الحكيم ثم يتعاقب الخطباء أمام الميكرفون وبعد كل خطيب منهم أنشودة وطنية قوية.
وأخيرًا يقف الزعيم وسط عاصفة من التصفيق فيشعر الإنسان بلحمة عجيبة ووحدة امتزجت فيها روح الزعيم بروح الجماهير التي اشرأبت منها الأعناق واتجهت العيون وتعلقت النفوس بالكلمات النورانية بل بجرس الصوت ونغمته ونبراته فتنفعل بانفعاله وتغضب لغضبه وتفكر إذا ما أجبرها على التفكير وكانت خطب الزعماء لا ترمي إلى إنماء الحماس الذي ينطفئ بسرعة بل كانت دروسًا سياسية تزيح اللثام عن الاستعمار ونواياه وطرقه المنعرجة الملتوية وأهدافه البعيدة والقريبة كما تكشف القناع عن الحقائق التونسية المرة وعن أمراضها المزمنة التي ينبغي أن تتخلص منها ثم تهدي إلى طريق معالجة أنفسنا وسبل النجاة مما هم فيه وما يتطلبه تحرير الفرد والوطن من نكران الذات ومن تضحيات وصبر وثبات وأخيرًا يشرح لهم الموقف السياسي بتدقيق تام ويختم الإجتماع بنشيد الحزب الرسمي والناس وقوف ويختلط بعد ذلك الزعماء بالشعب كأفراد منه لأن التقديس انتزع في تونس من الأشخاص ولا تقديس إلا للفكرة القومية.
فالتجربة المتكررةو الإتصال المباشر بالشعب أفيد للقضية وأعظم مفعولًا من كل الطرق الأخرى تعدد الاجتماعات العامة والخاصة وكررت للحزب أكثر من أربعمائة شعبة في المملكة التونسيةيجتمع المنخرطون في كل واحدة منها مرة في كل أسبوع أو نصف شهر على الأقل ليكونوا مطلعين على تطورات الحالةوعقد دعاة الحزب المتجولون عشرات الاجتماعات في كل أسبوع أما الزعماء فإنهم في تنقل دائم ودعاية شفاهية مستمرة.
لم توهب حرية الاجتماع والكلام إلى الحزب الحر الدستوري بل أفتكَّها افتكاكًا وأخذها عنوة وضحى بمئات ومئات من أتباعه وضحى قادته أيضًا بحريتهم وحوكموا أحكامًا قاسية المرة تلو المرة لأجل تلك الاجتماعات لأن الحريات كلها مفقودة بتونس والحزب نفسه محجر قانونًا فمن يتلفظ بكلمةدستور ومن يجتمع بأكثر من ستة أشخاص معرض لثلاثة أعوام سجنًا وغرامات مالية فادحةوبما أن تحقيق الأهداف القومية تتطلب إيقاظ الشعب وتكتله وبما أن تلك النهضة مستحيلة وذلك التكتل لا يتم إلا بتلك الاجتماعات العامةقرر الحزب أن يقوم بها ويكلِّفه ذلك ما يكلِّفه فبدأ على إثر الحرب العالمية الثانية بالاجتماعات الصغيرة إلى أن نمت وترعرعت وأصبحت تعد عشرات الآلاف فوجدت فرنسا نفسها أمام الأمر المقضي فإما أن تقدم على إيقاد ثورة عامةوإما أن تغض الطرف شيئًا ماوحاولت إيقاف تيارات الاجتماعات تارة بإصدار أحكام قاسية على المسئولين عن عقدها والمتكلمين فيها وتارة تنزل إلى أماكنها جنودها ودباباتها لتمنعها جدافتتم في أماكن أخرى فقد ابتدأ التونسيون في الحقيقة معركة التحرير في ذلك المجال.
ثم كان الحزب يصدر منشورات أسبوعية يوزعها على شعبه فقط للتوجيه وتحديد مواضيع الداعية وبيان الأعمال المتنوعة التي يتطلبها الموقف وما أحدث في الأنظمة الداخلية فيبث ما فيها إلى أعضاء الحزب ثم إلى الجماهير وذلك اتصال آخر كاد يكون مباشرًا…وللحزب صحيفتان رسميتان تنطقان باسمه الأولى باللغة العربية تتوجه إلى الشعب التونسي والثانية بالفرنسية تتوجه إلى الأجانب وله صحف متعددة شبه رسمية اثنتان منها يوميتان الواحدة صباحية والأخرى مسائية وبجانبها عشرات من الجرائد الأسبوعية منها السياسية ومنها الأدبية ومنها الدينية ومنها الفكاهية والهزليه حتى إن جميع الصحافة التونسية أصبحت موالية للحزب تدافع عنه وتنشر آراءه ما عدا بعض الصحف الهزيلة التي تمولها السفارة الفرنسية…ولا تتكون الشعبة الرسمية إلا إذا انخرط فيها ٥٠ عضوًا عاملًا على الأقل فإذا تم ذلك النصاب تعقد جلستها العامة وتنتخب هيئة إدارتها التي من بينها رئيس الشعبة وأمينها العام وأمين صندوقها والمسئول عن الشبيبة والمسئول عن الدعاية وتجتمع تلك الهيئة مرة في الأسبوع على الأقل لبحث الوسائل الناجعة لإنمائها واتساعها وتطبيق أوامر الحزب في منطقتها وعليها أيضًا أن تعقد اجتماعًا عامًّا لجميع المنخرطين فيها مرة في كل نصف شهر على الأقل وتكون من الشبان التابعين لها شبيبة دستورية تسهر الشعبة على تربيتها الوطنية وتدريبها على العمل وتنفيذ الأوامر والامتثال للنظام ه‍وفي الغالب الأحيان تنشئ لها شبه مدرسة لتثقيفها تثقيفًا سياسيًّا وطنيًّا ممزوجًا بثقافة عامة وتكوِّن الشعبة أيضًا هيئة من الدعاة يعملون باستمرار تحت إشرافها في جميع منطقتها لبث الدعاية الفردية والاتصال بجميع الطبقات لجلبهم للحزب وتوجيههم التوجيه الصحيح فينبثُّون في الأماكن العامة والخاصة مجادلين ومناقشين مدافعين ومبينين ويكون عددهم حسب أهمية الشعبة.
وتختلف مناطق الشعب اختلافًا كبيرًا في مساحاتها الترابية ففي البوادي تنتقل الشعبة بطبيعة الحال مع القبيلةوهي في الجهات الزراعية يتفرق أعضاء الشعبة على مجموعات المساكن المتفرقة التي تسمى ﺑالمشتى أو الدوار ويكونون في كل واحدة منها مركزًا تابعًا للشعبة وفي كل قرية وكل مدينة شعبة وإذا كانت المدينة كبيرة آهلة بالسكان فتتكون في كل حي منها شعبة ولكل شعبة ناديها الخاص تجتمع فيه فيصبح شعارًا للروح القومية ومركزًا يتجه نحوه كل دستوري ومرجعًا ومأوى وينبوعًا للأفكار الحية ومنارًا ينير السبيل في وجه الشعب وعنوانًا على استمرار الكفاح وقد انتظمت تلك الشعب في جامعات دستورية لكل واحدة منها منطقتها فقسم الحزب هكذا المملكة التونسية أربعه عشرجامعة تسهر كل واحدة منها على سير الحركة بجهتها وتكون الرابطة بين الهيئة العليا للحزب والشعب ولها هيئة مديرة تُنتخب من بين أعضاء هيئات الشعب وتشرف على أعمال الدعاية الحزبية وتكوين الشُّعب الجديدة وتنظيم الشعب القديمة ومحاسبتها المالية يقتضي نظام الحزب مبدئيًّا أن ينعقد مؤتمره مرة في كل سنة ولكن النضال الوطني الدائم جعله لا يعقد جلساته العامة إلا مرة بعد سنوات لأنه يمثل جميع أعضائه تمثيلًا ديمقراطيًّا صحيحًا فتقدم جميع أعمالها لأول مؤتمر ينعقد بعد تلك الأعمال ليصادق عليها أو ينكرها وهو يتحمل مسئولية جميع أعمال الحزب ومسئولية تسيير الحركة القومية كلها كما يتحمل مسئولية النضال وتهيئة أسبابه ولقد أصبح الديوان السياسي أكبر سلطة في البلاد التونسيةوأصبحت كلمته نافذة في الشعب بأسره بمثابة الدماغ المسير وما يصدر عنه من قرارات وتصريحات لا يصطبغ بصبغة شخصية بل يصدر عنه كمجموع وهو يتركب من عشرة أعضاء من بينهم رئيس الحزب الحبيب بورقيبة والأمين العام صالح بن يوسف وأمينان عامان مساعدان الهادي نويرة وعلي البلهوان ومدير المنجي سليم ونائب المدير الهادي شاكر والأعضاء جلولي فارس ويوسف الرويسي بدمشق وقد مات الدكتور ثامر شهيدًاوقد فُصل الدكتور ابن سليمان من الحزب ويجتمع مرتين في الأسبوع على الأقل ولكن اجتماعاته في الحقيقة كادت تكون يومية ويمتاز عمله بالاستمرار في خطة واحدة وبرنامج عام طيلة أعوام متواليةكما يمتاز بالتكتم التام في نواياه ولا تظهر مقرراته إلا عند التنفيذ فينفذها إذ ذاك بسرعة خاطفة تضع المستعمر أمام الأمر المقضي وتأخذه على حين غرَّةوبفضل تكتل القوات الشعبية حوله وفهمها لمناوراته كان دائمًا يملك زمام المبادرة في الأعمال فيفسد مناورات السلطات الاستعمارية ولا يدخل الشعب في معارك جزئية أو كلية عندما يسعى لها المستعمر بل عندما يرى أن الظروف تساعد تونس.
ولجانب الديوان السياسي توجد هيئة يستشيرها في الأزمات ويعتمد عليها في تنفيذ المقررات السريعةوهي تقوم مقام المؤتمر بعد انفضاضه وتلك الهيئة هي المجلس الملي المكون من رؤساء الجامعات ومن أعضاء ينتخبهم المؤتمر ومن حق الديوان السياسي حضور جلساته.
كوَّن الحزب شبه مدارس تابعة للشعب والجامعات وانتدب لها من بين الدستوريين من يلقي المحاضرات في النظم السياسية وتاريخ الحركات القومية في مختلف الأقطار وفي مبادئ الحزب وطرق دعايته وكفاحه ليكون فيها دعاة مقتدرون وأسس بتونس مدرسة عليا للدعاة الممتازين يتلقون فيها الدروس بانتظام ويمتحنون في موادها ولكن أعظم مدرسة لتكوين الرجال القادرين على خوض معركة الحياة الذين تم إعدادهم لتنظيم جميع الميادين من سياسة وثقافة واقتصاد واجتماع فلم يقتصروا على معرفة النظريات بل يرونها كلامًا أجوف ما لم تكن مقرونة بالتطبيق هي العمل الحزبي المستمر الذي يفرض على الدستوريين فرضًا للقيام بمنشآت الشعب المتنوعة والذي يكوِّنهم تكوينًا في الكفاح والنضال ولم يقتصر عمل الحزب على داخل المملكة التونسية بل رأى أنه لا بد من تعزيز الكفاح الداخلي بعمل خارجي يتسع نطاقه شيئًا فشيئًا حتى يمتد وينتشر في غالب القارات لتكوين أنصار لتونس وجلب عطف الحكومات والشعوب والتعريف بالقضية الوطنية وبالأساليب الإستعمارية الفرنسيةفكوَّن لهذا الغرض مكاتب متعددة وجعل من مكتب القاهرة مركزًا لها ونقطة اتصال دائم وأحدث مكتبًا بنيويورك يقوم بالدعاية في الأوساط الأمريكية المختلفة ويسهر على سير القضية أمام هيئة الأمم المتحدة ولدى وفود الحكومات وأيضًا مكاتب بباريس ونيودلهي وكراتشي وستوكهلم وهو يوسع عمله هذا يومًا فيومًا….تشعبت الحركة الوطنية بتونس بقدر انتشارها وتعمقهاوتعددت حاجاتها بتعدد الميادين التي تكافح فيها لرد الهجمات الاستعمارية والسيطرة الأجنبية وتوغل الفرنسيين في منظمات الدولة والاقتصاد من زراعة وتجارة ومناجم وبنوك وفي التعليم والثقافة لتفكيك جميع الروابط القومية والقضاء على معنويات الشَّعب وثروته فرأى الحزب وجوب تقسيم الأعمال في الكفاح ليختص كل جماعة من الوطنيين بالنضال في ميدانهم مع السير طبق توجيه الحركة الوطنية فكان الميدان السياسي مختصًّا بالحزب نفسه لتحقيق الأهداف الوطنية العليا.
وأعان الحزب على تكوين منظمات قومية كبرى تعمل تحت إشرافه العام في الحقل السياسي وتشتغل كل منها بناحية من نواحي الحياة.
كما إن الاتحاد العام التونسي للشغل أعظم منظمة قومية تونسيةلأن العمال يكوِّنون الطليعة في كل شعب والقوة الفعالة في النضال وهم أصحاب السواعد المفتولة والشعور البشري الصحيح والثبات على المبدأ وأعرف الناس بالظلم والظالمين وهم رجال الإنتاج يسهل تنظيمهم لاجتماعهم مئات وآلافًا في محل عملهم وإن ما يرونه يوميًّا من بذخ المستعمرين وشرههم واحتكارهم للأرباح الطائلة يجعلهم لا يطيقون صبرًا على البقاء فيما هم فيه من فاقة وعراء ومسغبةوقد شرع العمال التونسيون في تنظيم صفوفهم في نقابات تونسية للذود عن حقهم المغصوب والسعي في رفع مستواهم الحيوي في عام ١٩٢٢تحت قيادة شاب نشيط ممتاز تخرج من مدارس الهندسةوهو محمد علي القابسي الذي أحدث حركة نقابية قوية بما بثه من روحه الثائرة في قلوب أتباعه وقد تولدت حركة هذا الزعيم النقابي وسط الكفاح لأنه بمجرد ما كوَّن الجامعة العامة للعمل التونسي سنة ١٩٢٤وقفت القوات الاستعمارية في وجهه وصُمت الآذان عن مطالب العمال المشروعة فما كان منه إلا أن أعلن إضرابًا عامًّا وكانت نقطة ارتكازه ميناء بنزرت وجاءت القوات الفرنسية تعزز أصحاب رءوس الأموال الاستعماريين فقتلوا وشردوا وألقوا القبض على عشرات من بينهم محمد علي وأحالوهم إلى المحاكم الفرنسية التي حكمت عليه بالنفي المؤبد سنة ١٩٢٥ فهاجر وطنه مجبرًا ومات بالحجاز فريدًا وحيدًاوكانت الأسباب التي انهزم أمامها محمد علي متنوعة أعظمها تألُّب جامعة النقابة الفرنسية العامة والحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الشيوعي الفرنسي والأحزاب الاستعمارية اليمينية التي حملت في صحفها حملة شعواء على النقابات التونسية لانسلاخها عن النقابات الفرنسية من جهة ولما فيها من خطر يهدد المصالح الإستعمارية من جهة أخرى فلم تجد الحركة النقابية الأولى مدافعًا ولا نصيرًا ولكن الفكرة التي شرع محمد علي في تنفيذها لم تمت معه وتأسست سنة ١٩٣٧ من جديد الجامعة العامة للعمال ونشرت فروعها في المملكة التونسية كلها بسرعة عجيبة وكان الحزب يؤازرها بكل قواه وهذا من أكبر أسباب نجاحها ولكنها لم ترق الاستعماريين خاصة وأن العمال بعد أن تكتلوا وطالبوا بحقوقهم من غير جدوى أخذوا يقومون بالإضرابات المتوالية فتذمرت الشركات الفرنسية الكبرى من هذه الحركة واستنجدت مناجم الفوسفات بقوات البوليس والجيش التي وضعتها السلطات الفرنسية تحت تصرفها فاحتلَّت المناجم وأخذت تقاوم العمال مقاومة شديدة عنيفة وهاجمتهم هجمات متوالية دامية أسفرت عن عشرات من القتلى ومئات من الجرحى في مناجم المتلوي والعرائس والمضيلة والجبل الأبيض والمتلين فقام الشعب التونسي بأسره بإضراب عام غضبًا لعماله وآزرهم في مُصابهم وأرسل إليهم من كل أنحاء المملكة الإعانات والإسعاف ولما هبت العاصفة على الحركة الوطنية التونسية جرفت في أعاصيرها الجامعة العامة للعمال سنة ١٩٣٨ فذاق القائمون بها ألوانًا من العذاب والسجون ولحق الاضطهاد الاستعماري حركة العمال كما لحق الحركة الوطنية نفسها.
وبعثها الزعيم النقابي العالمي الشهيد فرحات حشاد عام ١٩٤٤ بعثًا جديدًا وكساها صبغتها الحالية ووجهها توجيهًا نقابيًّا صحيحًا وافتكَّ الحرية النقابية من السلطات الاستعمارية افتكاكًا عندما وضعها أمام الأمر المقضي بتكوين نقابات حرة بمدينة صفاقس ثم عم نشاطه المملكة كلها وحصل على الاعتراف القانوني بنقاباته الحرة وساند الحزب الحر الدستوري الحركة العمالية الفتيَّة مساندة قوية كلية لأن الحركة العمالية أصبحت من الأسس الثابتة في تكييف مستقبل تونس ولأنها قوة من أعظم قوى البلاد اندفاعًا واستماتة وسرعان ما انتظم العمال من تونسيين وغير تونسيين في صفوف هذه الحركة الجبارة فأصبح عددهم يفوق المائة ألف وخاضت المعارك الواحدة تلو الأخرى للدفاع عن حقوق أعضائها وتوالت الإضرابات فأرادت السلطات الفرنسية أن تنزل بها الضربة القاضية قبل أن يستفحل أمرها واغتنمت فرصة الإضراب العام الذي أعلنه الاتحاد العام التونسي للشغل في يناير ١٩٤٨ والذي نجح نجاحًا باهرًا في المملكة كلها فعطل جميع المصالح وأوقف المواصلات والإدارة وتآمرت تلك السلطات مع الجيش الفرنسي وبينما كان العمال المضربون في محطة قطار صفاقس يحافظون على تنفيذ الإضراب هاجمتهم القوات المسلحة في الصباح المبكر بدون سابق إنذار وأطلقت عليهم وابلًا من الرصاص وهرع العمال من كل صوب لمكان المعركة وخاضوها وهم عزل من كل سلاح واقتحموا الدبابات وافتكُّوا منها المدافع الرشاشة ولم يتقهقروا إلا بعد أن تكاثر عليهم الجنود من كل صوب ومات منهم ثلاثون شهيدًا وجُرح مائة وخمسون واعتقلت السلطات الفرنسية عقب ذلك مئات من العمال وأودعتهم السجن وقد تظاهر الشعب التونسي بأسره احتجاجًا على هذا الاعتداء الدامي وقدم أعضاء بلدية صفاقس استقالتهم وحمَّلوا السلطات الفرنسية مسئولية هذه الحوادث ولكن السلطات الفرنسية مع ذلك قدمت زعماء الحركة النقابية إلى المحكمة الفرنسية فأصدرت عليهم في ٢٠ يناير سنة ١٩٤٨ أحكامًا قاسيةورغم ذلك الاضطهاد لم تتمكن السلطات الفرنسية من القضاء على الاتحاد العام التونسي للشغل الذي زادته دماء الشهداء رسوخًا واعتدادًا بالنفس وثبَّتت أقدامه ومتَّنت بنيانه فخرجت الحركة النقابية من تلك المعركة أقوى وأكثر اندفاعًا وأشد مراسًا فبعد أن نظمت العمال في المدن مالت إلى إخوانهم المتفرقين في المزارع إلى العمال الفلاحين تشد من أزرهم وتتمسك بحقوقهم وتناضل عنهم حتى كسبت لهم حق الانخراط في نقابات لهم ثم دربتهم على النظام والنضال ورفعت أجورهم ولكن المستعمرين الفرنسيين رأوا في ذلك تحديًا لهم وخطرًا مباشرًا يهدد مصالحهم فناصبوا النقابات العداء وخرقوا قوانينها العامة ولما أضرب عمال الشركة الفلاحية الفرنسية شركة النفيضة في وقت الزراعة استنجدت بالقوات العسكرية الفرنسية التي أخذت تطارد العمال وتخرجهم من بيوتهم وتتبعهم رميًا بالرصاص حتى قتلت منهم عددًا وافرًا من بينهم امرأة حامل فقام القطر التونسي قومة الرجل الواحد احتجاجًا على ذلك العسف والتفَّ الشعب التونسي حول عماله المضطهدين وكان يوم تشييع جنازة الشهداء يومًا مشهودًا حضره نجل الملك نائبًا عن أبيه والوزراء التونسيون وقادة الحزب الحر الدستوري التونسي وممثلون عن جميع المؤسسات التونسية وإذا بدماء الشهداء توحِّد مرة أخرى صفوف تونس وتقرب بين القلوب وتطهر النفوس وتزرع فيها روح التآخي وألقى على لسان الوزارة التونسية خطابًا عبر فيه عما يختلج في ضمير التونسيين جميعًاقال بسم الله الرحمن الرحيم وصل الله على سيدنا محمد وسلم
باسم جلالة الملك المعظم سيدي محمد الأمين الأول صاحب المملكة التونسيةدام له العز والبقاء وبالنيابة عن وزارته المخلصة المتفانية في خدمة شعبه النبيل وأصالة عن نفسي بصفتي وزيرًا للشئون الاجتماعية أقف والقلب متصدع أسًى أمام جثث هؤلاء الشهداء الأبرار الذين سقطوا كما سقط كثيرون من قبلهم.
أقف بينكم جميعًا لكي أعرب عن الحزن العميق الذي يخالج في هذا اليوم الرهيب صدر الأمة التونسية قاطبة وفي مقدمتها ملكها المفدى ووزارته الوفية التي بذلت منذ أسابيع قصارى الجهد للتفادي من المأساة التي نحياها اليوم والتي تشتد وطأتها أيما اشتداد على أفئدتنا عندما نعلم أنه كان من الممكن بل من السهل اجتنابها فقد كنا على قاب قوسين أو أدنى من الحل الذي من شأنه إرضاء المضربين وإعادة السلم والراحة لنصابها فإني بعد ما طمنت خاطر العملة المضربين وطلبت منهم ملازمة الهدوء والسكينة بواسطة نوابهم الشرعيين طلبت أيضًا بإلحاح من مدير الشركة أجلًا إلى أن يصدر بلاغ مجلس الوزراء الذي انعقد كما تعلمون يوم الثلاثاء في الساعة الرابعة مساءوقد انفجرت المأساة بكل أسف في نفس ذلك اليوم حوالي الساعة الثانية بعد الزوال أيضًالكن أبت الأقدار إلا أن تجد ما جدَّ ونحن المؤمنين بوجود الله تعالى العامرة قلوبنا بتقواه الصابرين والمصابرين على الضيم والعدوان الجادين في مقاومته بالحجة والإقناع لا نرى في هذا المصاب العظيم الذي حل بأمتنا في أبنائها الضعفاء المساكين إلا محنة تكون عاقبتها بحول الله الفرج لأن في اتحادنا الهادئ الوديع وفي صمودنا خاشعين صابرين في هذا اليوم أمام موتانا الذين ذهبوا ضحية اعتداء فظيع لا مبرر له لأن المضربين لم يطالبوا إلا بحق مشروع وبأساليب مشروعة قلت لأن في اتحادنا عبرة لمن لم يعتبر لحد الآن ولمن لا زال يفضل استعمال القوة على حسن التفاهم ومعالجة الأمور بالتي هي أحسن لأن لكل قوة قوة أكبر وقوة الله التي هم متمسكون بها فوق كل شيء.
وكان آمالهم أن تقتص العدالة من كل معتدٍ أثيم وألا تذهب هذه الأرواح سدًى بل يكون في تضحيتها درس يتعظ به الحائدون عن سواء السبيل سبيل التفاهم النزيه وحسن المعاشرة بين جميع المتساكنين وفي الختام ننحني بخشوع وترحُّم على أرواح هؤلاء الشهداء الأبرياء داعين لهم بالرحمة الواسعة ومقدمين إلى أوليائهم وإلى كافة الطبقة الشغيلة خاصة وإلى الأمة التونسية عامة أحرَّ التعازي وتجددت المعارك الدامية بين العمال والقوات الفرنسية بشركة بوتنفيل الزراعية وبجهات سوق الخميس وسوق الأربعاء وباجة وبرج السدرية وقد حملت إحدى النسوة العاملات أثر هاته الواقعة الأخيرة جثة وحيدها على يديها وكان شابًّا لم يتجاوز العشرين من عمره وسارت به والعمال وراءها إلى أن وضعته أمام قصر الملك بحمام الأنف الذي كان قريبًا جدًّا من محل المعركة وأخذت تنادي بأخذ حقها من الظالمين فأطل عليها الملك من شرفته واستفسر الأمر فلما علم بحقيقة الحادث أدخلها إلى قصره وقبَّلها في رأسها وأجلسها حذوه ومسح دمعتها وقال لها: إن مات لك ابنٌ فالتونسيون كلهم أبناؤك خصوصًا وأنه مات شهيدًا في سبيل وطنه ودينه وما أنا إلا أب لك فخرجت إلى الملأ وهي تزغرد.
وبعد تلك الواقعة أسِّس الاتحاد على مبادئ نقابية حقيقية يرمي إلى إنجازها وقد انتصر في تحقيق بعضها ولكنه يرى أنه يستحيل على العامل التونسي أن يحصل على حقوقه ما دامت بلاده تحت تصرف الأجنبي غير مستقلة فاستقلاله مرتبط ارتباطًا كليًّا باستقلال وطنه وقد شرح محمود المسعدي في تقرير قدمه لمؤتمر الاتحاد المنعقد بتونس في تلك الفكرة بوضوح تام قال
إن الطبقة العمالية التونسية وكذلك منظمتها القومية الإتحاد العام التونسي للشغل مؤمنة إيمانًا راسخًا بأن العدل الاجتماعي الذي نريد تحقيقه في أكمل صورة لا يمكن أن يتحقق في نطاق الوضع السياسي الجائر إلا صوريًّا وجزئيًّا وذلك لأن الوضع السياسي في حياة جميع الأمم ما هو إلا صورة من الوضع الاجتماعي والاقتصادي السائد فيها ولأن السياسة هي نظام الحكم العام المسيطر على الشئون الاجتماعية والشئون الاقتصادية المدبر لأحوال طبقات الأمة المختلفة والمؤثر على توزيع الثروة القومية بين تلك الطبقات تأثيرًا مباشرًا وأي سياسة حكومية لا تشمل الاقتصاد ومشاكل الإنتاج والمعاش والأسعار والأجور وأي مشكلة من المشاكل الاجتماعية كمقدرة الشراء ونظام الشغل وحقوق العمال ونظام الإضراب خارجة عن مشمولات نظر الحكومات ثم إن الطبقة العاملة التونسية تعلم من ناحية ثانية أن الأمة كلٌّ لا يتجزأ وأن الذين يعملون على تفريق الصفوف وتمييز طبقة على طبقة وتفضيل فريق على فريق إنما هم أعداء الأمة من أولئك الرأسماليين والاستعماريين الذين يريدون أن يوجهوا قوة الكفاح في الشعب إلى التطاحن الداخلي والتقاتل بين أقسام الأمة الواحدة لتتخاذل في حملتها ويضعف بعضها بعضًا ولكن الطبقة العاملة التونسية قد أقامت الدليل المرات العديدة على أنها تعلم بالضبط أين مصلحتها ومن هم أعداؤها الحقيقيون ونحو من يجب أن توجه كفاحها المستميت وعلى أنها متحدة اتحادًا كليًّا مع عامة الشعب التونسي بكافة طبقاته في جهاده نحو العدل والحرية والرقي والشعب التونسي بدوره قد أدرك ذلك وأكبره في الطبقة العاملة فقابلها من التأييد لها والاتحاد معها بمثل ما لقيه منها.
كان كفاح إجتماعي في نفس الوقت كفاحًا سياسيًّا لأن السياسة مسيطرة على الاجتماعيات فلا تصلح هذه إلا بصلاح تلك كما يتبين لماذا كان كفاحنا الاجتماعي كفاحًا قوميًّا في نفس الوقت لأن مصلحة العمال جزء من المصلحة القومية العامة فلا تتحقق الأولى إلا بتحقق الثانية.
مقومات النظام السياسي
ولو أمعنا النظر لحظة في نظام الحكم ولو باعتبار المشاكل الاجتماعية خاصة لرأينا أن جميع الأسباب السياسية نوع من الظلم الاجتماعي راجع إلى فساد الأصول العامة القائم عليها النظام السياسي في البلاد والأصل الأول الذي يقوم عليه هذا النظام السياسي هو كما تعلمون المبدأ الاستعماري والاستعمار معناه تسخير القوى السياسية وهياكل الحكم في جميع أنواعه ومظاهره لخدمة رأس المال الأجنبي ومصالح طبقة أجنبية من المحظوظين الذين جاءوا البلاد لاستثمارها من جميع النواحي لذلك كان أول ما يبدأ به الاستعمار محاولة قتل السلطة الأهلية وإزالة الذات والشخصية والسيادة القومية كذلك رأيناه يصنع بالجزائر فيمحو الذاتية القومية الجزائرية ويجعل من التراب الجزائري العربي ترابًا فرنسيًّا ويحشر الجزائريين في الجنسية الفرنسية حشرًا أما في تونس فالاستعمار حاول قتل الذاتية التونسية وإفناء السيادة التونسية بواسطة الإدارة المباشرة التي لم تبقِ من السلطة إلا الألقاب الظاهرة والتصرف الصوري وافتكَّت السلطة الحقيقية والنفوذ الواقعي وهذا ما توصل به الاستعمار إلى أن شحن إدارتها بالآلاف المؤلفة من الموظفين الأجانب وإلى أن صيَّر التونسي في إدارة بلاده أجنبيًّا عن الحكم والنفوذ الحقيقي وعن تدبير الشئون الجوهرية في حياة بلاده.
على أن الاستعمار لم يكتفِ بسلوك سبيل الإدارة المباشرة للاستبداد بالحكم والتصرف به وحده بل زاد على ذلك أنه عزز هذا الحكم المباشر بإسناده إلى قوات احتلال عسكرية وجندرمة وشرطة يتصرف فيها وحده دون تدخل السيادة التونسية لأنه لا يرمي إلى تدبير شئون الحياة والمصلحة القومية العامة، بل إلى فرض نظام سياسي يهدف إلى مصلحة خاصة هي مصلحة الجالية الأجنبية التي يقال إنها حمايةوبعد أن أستبد الاستعمار بالحكم بواسطة الإدارة المباشرة وبعد أن جعل ذلك الاستبداد استبدادًا بالقوة واحتلالًا عسكريًّا زاد على ذلك كله أن جعله استبدادًا ديكتاتوريًّا لا رائحة للديمقراطية أو لشبه الديمقراطية فيه فالشعب في جميع شئونه خاضع لسياسة حكومة غير مسئولة يتصرف فيها مديرو الإدارات والوزراء كما يشاءون بدون أن يستطيع الشعب الدفاع عن مصالحه بواسطة أي منظمة نيابية تعبر عن آرائه ورغائبه وقد استعمل الاستعمار هذه الوسيلة بصفة مستمرة في الماضي وهو يود أن يستمر على استعمالها في المستقبل فأما مديرو الإدارات فهو لا يزال إلى الآن متشبثًا بأن يكونوا من الأجانب معاكسًا في ذلك كل منطق وكل معقول وأبسط مبادئ الحق.
وهل من المنطق أو المعقول أو من الحق في شيء أن يكلَّف بالنظر في المصلحة القومية وتدبير الشئون الوطنية من هم أجانب عنهم وأما الوزراء فإن الاستعمار كان يختارهم من بين ذوي الذمم التي تباع وتشترى بأبخس الأثمان ينصبهم على كراسي الحكم ويغدق عليهم الأموال والنياشين والتشريفات ويصرفهم بكل سهولة في خدمة مصالحه ضد المصلحة العامة بدون مراعاة استنكار الشعب ولفظه لهؤلاء العبيد والأذناب.
على أن الاستعمار لم يُرد أن يكون حكمه الاستبدادي مكشوفًا مفضوحًا فحاول أن يغطي على ذلك بالمغالطة والتمويه فأحدث مجالس ادعاها نيابية وما هي بالنيابية ولكنها مهازل فظيعة ومنكرات أشنع من الظلم المكشوف أوجد الاستعمار المجلس الكبير ولكنه جعل نظامه النيابي على ما تعلمون من التشويه الممقوت ومن التمثيل الجائر فأعطى لممثلي الأقلية الأجنبية نصف المجلس ولممثلي الأمة التونسية بأجمعها النصف الآخر ثم زاد على ذلك أن جعل التمثيل فيه للمصالح الاقتصادية أي للطبقات التي تتنافى مصلحتها الخاصة مع المصلحة العامة أو التي تجد مصلحتها الخاصة في ممالأة مصلحة الأجانب والخروج عن المصلحة القومية فإذا المتصرفون في ميزانية الدولة المقررون لوجوه صرف الأموال المأخوذة من جيوب الشعب هم كبشة من ممثلي المستعمرين الذين اغتصبوا الأراضي والشركات الكبرى التي افتكَّت موارد الثروة القومية وأذناب الاستعمار ممن كسبوا ثروتهم بخدمة ركاب الأجانب وامتصاص دماء المواطنين.
وليكون هذا الحكم السياسي الدكتاتوري كاملًا محكمًا أضاف إليه نظام حالة الحصار الذي عاشت فيه تونس فوق الثلاثين سنة من أول الحماية ولا تزال عائشة فيه منذ ثلاث عشر سنة باسترسال أي من سنة ١٩٣٨م أما الأوامر الزجرية الاستثنائية والتحجير للحركة السياسية الكفاحية الوطنية الحقة فذلك ما لا يحتاج إلى تذكيرالنظام السياسي وعلاقته بالمسائل الاجتماعية والاقتصاديةإن الشيء الذي يجب أن نؤمن به إيمانًا راسخًا هو أن الأجنبي لا تقوم سياسته إلا على مبدأ المنفعة الماديةوالتفوق الجنسي والمعنوي فالاستعمار وليد النظام الاقتصادي العصري السائد في غربي أوروبا وهذا النظام الرأسمالي قائم على أن المنفعة المالية هي الغرض من كل شيء وأن المال هو أول ما يرسم في سلم القيم وأن الرغبة في المال والنعم العادي لا يقفان عند حد وأنه إذا حصلت ثروة كبرى وجب الطموح إلى ثروة أخرى أكبر منها وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية له المبدأ الذي تقوم عليه نفسية الاستعمار ومذهب الاستعماريين في نشاطهم أينما كانوا بل انظروا إلى الميدان الاقتصادي في البلاد تجدوا أن معظم الثروة القومية الوطنية قد اغتصبها الإستعمار فثروة المناجم بأنواعها في أيدي الشركات الرأسمالية الكبرى والعمال بمثابة الأدوات أو الآلات المستعملة في استثمار تلك الثروة لا يعتبر فيهم إلا رخص النفقة ومقدار الإنتاج كما أن الآلة تكون أحسن ما تكون إذا كانت رخيصة الثمن غزيرة الإنتاج وجميع الأراضي الخصبة في أيدي الشركات الفلاحية الأجنبية وكبار المعمرين الذين حصلوا عليها بالقوة الغاشمة أو بالخدعة والحيلةومعظم الثروة القومية مما ينتج عن استثمار لا يزال موجهًا إلى خارج الوطن لأنه نتيجة عمل رءوس أموال أجنبية وهكذا تعم الفاقة والفقر العباد والبلاد فالفلاح يضيع أرضه أو تتغلب عليه قوة الفلاحة الكبرى والعامل تُمتص جهوده والوطن تتناقص ثروته الاقتصادية بما يخرج منها إلى الخارج هذا في الميدان الاقتصادي أما في الميدان الاجتماعي فأجلى ما يظهر للعيان هو البؤس المادي والأدبي الذي هو نتيجة التفقير الاقتصادي والضغط السياسي والطبقة الشغيلة التونسية أعلم بذلك فلا الأجور تقدم حسب الحاجات الطبيعية ومستوى الأسعارولا الحقوق الاجتماعية كاملة ولا محترمة فلئن حصل عمال المصانع والمناجم على بعض حقوقهم فإن عمال الفلاحة لا يزالون يرزحون تحت أعباء نظام قانوني جائر لا يضمن لهم عشر ما هو مضمون لغيرهم من العمال ولولا كفاحهم العجيب وما أظهروه من بسالة وشجاعة أدهشت الخصم نفسه وكانت آية للجميع لما حصلوا على شيء زد على ذلك أن هذه الحقوق الاجتماعية الموجودة قانونًا لا يحترمها الاستعمار بل لا يزال يدوسها بقدميه ولا يزال يحاول إبطالها بشتى الوسائل ولا يزال يقاوم الحركة النقابية الكفاحية بالقتل وبالتعذيب بالتتبعات العدلية وبالسجن والنفي والطبقات الشعبية في بؤسها المادي مشردة الأطفال مهددة في صحتها لا من يسهر عليها ولا من يفكر في إيجاد نظام ضمان اجتماعي يتكفل القضاء على الأمراض والعاهات والنكبات والبطالة ولا من يفكر في إيجاد وسائل الاستخدام الكامل لإزالة التشرد والتسول والبطالة والتدهور ولا من يفكر في شأن الطفولة وما يهددها من الجهالة والسقوط الأخلاقي والأمراض والإجرام وآخر ما يريده الاستعمار بعد أن استبد عليها سياسيًّا وأفقرها اقتصاديًّا وظلمها وأهملها اجتماعيًّا هو قتلها معنويًّافهو يقاوم حركة التعليم ويقتِّر عليها المدارس تقتيرًاوهو يحاول أن يقتل لغتها القومية وأن يجنسها لغويًّا ويدمجها عقليًّا حتى لا تبقى لها شخصية تشعر بها ولا ذاتية تدافع عنها بل تبقى جاهلة لا تعرف حقوقها ولا تشعر بها ولا تقدر على الدفاع عنها أو تتعلم تعلمًا أجنبيًّا فتنسى قوميتها وذاتيتها وتنسلخ عن طبيعتها وتفنى فناء معنويًّا…هل تظنون أنه يمكن لولا أن نظام الحكم السياسي مسخر له موجَّه إلى أغراضه فالغرض الاقتصادي والاجتماعي من الإستعمار الرامي إلى جلب المنفعة المادية إلى المستعمرين دون غيرهم هو الذي اقتضى أن يكون النظام السياسي على ما هو عليه فالغاية أن يستثمر الأجانب جميع موارد البلاد فوجب أن يكون حكم البلاد في غير أيدي أبنائها وأن تغتصب سيادتها وأن يحتكر الأجانب الإدارة والنفوذ والغاية التصرف في ثروة البلاد بأجمعها فوجب أن لا يشارك الشعب في تسيير شئون البلاد وأن لا يكون هناك نظام نيابي ديمقراطي صحيح والغاية امتصاص دماء البلاد والعباد فوجب أن تكون القوة المسلحة مسلطة على كل مكافح وأن لا تكون هناك حريات عامة حتى لا يستعملها الشعب للمقاومة والكفاح والغاية افتكاك كل ما يملك هذا الشعب من أراضٍ وموارد طبيعية فوجب أن يثقل هذا الشعب اقتصاديًّا وأن يحرم من الحقوق الاجتماعية وأن يبقى جاهلًا فقيرًاحتى لا تكون له قوة مادية ولا معنوية يزاحم بها الأجنبي أو يدافع بها عن ملكه وحقه وهكذا نرى الإستعمار يتلخص في أنه نظام سياسي أغراضه الاقتصادية والاجتماعية ووسائله العملية القانونية والإدارية والعسكرية والاقتصادية والسياسيةأغراض ووسائل منافية للمصلحة القومية التونسية منافاة جوهريةولا سبيل إلى الطمع في تحسين الحالة الاجتماعية وقلب الوضع الاجتماعي إلا بقلب الوضع الاقتصادي والوضع السياسي المتولد عنه أي لا سبيل إلى الوصول إلى هدف واحد من أهدافها النقابية إلا إذا بدل النظام السياسي الاستعماري المنافي للمصلحة القومية بنظام اقتصادي وسياسي قومي بحت…لقد كانت الطبقة العاملة التونسية ولا تزال ولن تزال إلى يوم النصر والاستقلال وبعده في مقدمة الكفاح القومي العام مؤازرة بدون تستر أو خفاء للحركة القومية التحريرية التونسية عاملة على نصرتها والانتصار بها وذلك أن الطبقة العاملة التونسية مؤمنة بأن حركتها ثورية انقلابية لكنها ثورية لا على معنى العنف وانقلابية لا على معنى الفوضى.
بل هي حركة ثورية وانقلابية بمعنى أنها تريد أن يسود الحياة العاملة للمجتمع التونسي مبادئ سامية وسلَّم من القيم العالية غير ما جاء به وفرضه عليهم الاستعمار الهيكل السياسي خاضعًا مسخرًا لا لخدمة رأس المال الأجنبي ولا مصالح طبقة أجنبية محفوظة بل لخدمة مصلحة المجتمع بأسره والأمة بأجمعها.
يرجع للسيادة التونسية كامل وجودها وكامل حقوقها وسلطتها ونفوذها قانونيًّا وعمليًّا لا لفظًا فقط لأن ذلك من حقوقها الطبيعية ولأن أول ضمان للمصلحة القومية العامة لا يكون إلا في سيادة قومية ويستحيل أن يكون في سيادة أجنبية أو شبيهة بالأجنبيةو للموظفين التونسيين كامل حق إدارة بلادهم لأن عون السلطة والموظف وكيل عن الأمة خادم لها ولأن أول ضمان لأمانة الوكيل وصدق الخدمة لا يكون إلا في لحمة الجنس ووحدة المصلحة الوطنية وليس من الحق ولا من المعقول أن توكل على مصالحك الأجنبي الطامع فيك القادم لاستثمار بلادك واغتصاب مالك وعلى النظام البرلماني أن لا يرضى بمهازل المجلس الكبير ومن فيه من قرود الاستعمار ممن لا يمثلون إلا أنفسهم ولا يعملون إلا لمصلحتهم الشخصية أو لمصلحة الأقلية المحظوظة التي ينتمون إليها ولأننا لا نعترف للإدارة ولا لمشعوذي المجلس الكبير ولا للأجانب بحق سن القوانين العامة المنظمة لحياة الأمة ولا بحق تقرير الميزانية العامة ومواردها ومصارفها وهي حق من حقوق الشعب المقدسة التي لا يتصرف فيها شرعًا إلا وكلاؤه الذين ينيبهم عنه ويرضاهم ويختارهم ويمنحهم حق التشريع والتسيير وميزانية الدولة خزينة عامة يجب أن يضطلع كل فرد بحظه من أعبائها على قدر طاقته المالية دون تمييز لطبقة على طبقة ويجب أن تصرف في المصالح العامة دون تفريق لفريق من الناس على فريق يجب ألا يقررها إلا من يختارهم الشعب اختيارًا ديمقراطيًّا حرًّا لذلك.
فالنظام النيابي الديمقراطي قائمًا على مبدأ تحقيق الديمقراطية السياسية والاجتماعية معًا ضامنًا لتمثيل الطبقات الشعبية والطبقات الشغيلة التمثيل المناسب لأهميتها وأهمية كدها وعملها ونشاطها الذي هو أساس ازدهار الثروة القومية. ومطالبين أن يقوم نظام المجتمع التونسي المجدد على أسس إنسانية سامية هي التي تعمل الطبقة الشغيلة على تحقيقها فليست الغايه افتكاك ما في يد الطبقة المحفوظه وليست غايتهم تسليط دكتاتورية العملة على الأمة بل غايتهم تسليط العدل بين سائر طبقات الأمة وليست الخصومة بينهم وبين فريق من الناس لهم فوق ما لديهم ويريدون امتلاكه منهم بل كانت الخصومه بين مبادئ النظام الرأسمالي الجائر المراد تعويضه بنظام قائم على العدل والمساواة في الحقوق بين الإنسان والإنسان وعلى تقدير الكفاءة والاستحقاق بمقدار العمل الصالح النافع المنتج وعلى أن قيمة كل إنسان ما عمل وما أفاد بعمله المجتمع فالناس يستوون مع الدواب في الحاجات المادية من طعام وشراب ومرافق معاش ومن الطبيعي أن يريد أي إنسان هذه الرفاهية المادية لأنها أقل ما يستحقه الإنسان في الوجود ولكن لا نكتفي بها ونريد أن يكون معنى الحق عندنا فوق معنى المنفعة ومعنى السمو والرفعة الإنسانية فوق معنى الرفاهية المادية والتحسين لأحوال معاشهم أن تغير سلم القيم الانتفاعية البحتة الخاضع لها مجتمع رأسمالي ونظام السياسي الاستعماري لا يزال البشر يكافح ويعمل مهما كانت الظروف حتى حقق لتونس هذا الرقي الإنساني وحتى أعترف لهم بحق تدبير شئونها بأنفسنا تدبيرًا حرًّا ديمقراطيًّا في ظل حرية الأفراد واستقلال الأمة وسواء أكان المقتعدون لكراسي الحكم وزارة شعبية مجاهدة أو وزارة صورية خانعة وجيش استعمار متجبر
و الإتحاد يناضل ليتمتع العمال في تونس بحرية تكوين النقابات إذ يستحيل على العامل المنفرد أن يطالب بحقه وأن يرفع عن نفسه الضيم إذا لم يتكتل مع إخوانه فيكونون قوة تقف أمام قوات الرأسمال الاستعماري ويسعى للمحافظة على أكبر حق للعمال وأمضى سلاح عندهم وهو حق الإضراب الذي يلجأ إليه العمال عند خيبة المفاهمات مع أصحاب العمل الذين يستمرون عادة في استثمار عرق جبين غيرهم لو لم يتمكن عمالهم من إجبارهم على إعطائهم طلباتهم وذلك بتعطيل الإنتاج أصلًا ووقف العمل.
و النقابات هي الضمان الوحيد للعمال لرفع مستوى معيشتهم وزيادة أجورهم على نسبة غلاء المعيشيةولا يكون العامل مطمئنًّا على حياته وحياة أسرته ما لم تتحقق الضمانات الاجتماعية التي تمكنه من الحصول على التأمين ضد حوادث العمل حتى إذا ما وقع له حادث أثناء العمل لا تموت عائلته جوعًا وعلى حفظ صحته وصحة أبنائه بأن تكون مداواته على نفقة صندوق الضمانات الاجتماعية وعلى المنح العائلية التي تُمنح له للترفيه شيئًا ما على عائلته أو إمدادهم بالضروريات وبما أن المخالفات التي تتعلق بالعمل ليست من خواص المحاكم القضائية فيتحتم إذن للسهر على تنفيذ القوانين النقابية تأسيس نوع خاص من المحاكم تطبق هذه القوانين وتكون كالحكم بين أصحاب العمل والعمال ويكون من بين أعضائها من ينوب عن الاثنين وتلك هي المحاكم العمالية التي حصل عليها الاتحاد العام التونسي للعمل بعد صراع دام سنوات ولكنها لم تكن مطابقة لجميع رغباته لأن الاستعمار يُفسد كل شيء ولا يكون العامل مطمئنًّا على بقائه في عمله والمحافظة على مورد حياته إلا إذا التزم صاحب العمل بالتزامات نحوه وبما أن تلك الالتزامات ليست خاصة بعامل دون آخر بل تشمل جميع العمال المشتغلين في مكان واحد أصبحت العقود المشتركة أمرًا ضروريًّا لتحقيق الاستقرار للعمال.
فجميع العمال بالقطر التونسي أي كل من يرتزق بعمله ويعيش بكد يمينه أو بعمل فكره ما عدا أصحاب المهن الحرة من أطباء ومحامين وصيادلة الذين حجر عليهم قانون النقابات الانضمام إليها ولذا نجد في الاتحاد العام التونسي للعمل عامل الميناء وعامل المصنع وعامل سكة الحديد مثلًا وإلى جانبهم الموظف الصغير والموظف الكبير وفراش المدرسة وأستاذ الكلية أيضًا وكلهم منخرطون في صفوفه طبق نظام محكم دقيق.
فجميع العمال في صناعة واحدة أو عمل واحد يكونون في كل مدينة نقابة توحد صفوفهم وتقوم بالدفاع عن حقوقهم وتتكلم باسمهم مع أصحاب العمل أو ممثلي الحكومة وتديرها هيئة ينتخبها الأعضاء انتخابًا ديمقراطيًّا وقد تكونت هكذا في مدن القطر التونسي مئات النقابات
كان كفاح الاتحاد في الخارج لا يقل أهمية عن كفاحه في الداخل وقد وجد صعوبات جمة للاتصال بالحركة العمالية العالمية لأن فرنسا لا تريد أن تسمح لمنظمة قومية تونسية بالاتصال رأسًا ومباشرة بالعالم الخارجي فوضعت العراقيل المختلفة من احتجاجات ووكلت نوابها الرسميين وشبه الرسميين كلويس جوهو زعيم االفرنسية وممثل فرنسا في المكتب الدائم للعمل بجنيف والممثل السابق للنقابات الفرنسية رفقة لويس صيان في الجامعة العالمية للنقابات ليعارضوا في انضمام الاتحاد للحركة العالمية وكان الشيوعيون الذين انفلت من يدهم زمام القيادة النقابية بتونس قد كونوا أيضًا سدًّا منيعًا أمام الاتحاد في تلك الجامعة العالميةفلم يجد الاتحاد التونسي في أول أمره صدى لنداءاته ولم يتلقَّ جوابًا عن مطالبه ولما أخذت بوادر الانقسام تظهر في الحركة العمالية وإنحاز كل شق إلى معسكره ذهب الشيوعيون مع روسيا والباقون مع أمريكا إذ ذاك أرادت الجامعة العالمية للنقابات أن تعزز قواها فدعت وفدًا من الاتحاد التونسي للحضور إلى مؤتمرها ثم قررت قبول الاتحاد في صفوفها ولكن سرعان ما تم ما كان متوقعًا من انقسام وخرجت النقابات الحرة عن المنظمة العالمية وكونت اتحادًا خاصًّا بها الجامعة العالمية للنقابات الحرة.
فإذا بها تراسل الاتحاد التونسي وترجو منه الانفصال عن المنظمة الشيوعية والانضمام إليها ولم تقتصر على ذلك بل أرسلت نوابًا عنها إلى تونس للاتصال بعمالها وإقناعهم بما تسعى له لعلمها بأن الاتحاد العام التونسي للشغل أقوى وأنظم منظمة نقابية في أفريقيا كلها فطرح الاتحاد تلك المسألة على بساط البحث في مؤتمره المنعقد في مارس ١٩٥١ والذي حضره كمستمعين نواب عن النقابات العالمية الحرة ونقابات الجزائر ومراكش وساحل الذهب ويوجوسلافيا ومدغشقر وبريطانيا والهند وفرنسا وتوالت المناقشات الحادة ولم يفز اقتراح الانضمام إلى النقابات العالمية الحرة إلا بثلثي الأصوات فقط لأن قسمًا كبيرًا من العمال التونسيين وإن لم يكونوا شيوعيين إلا أنهم يرون في أمريكا الدولة التي تعزز الاستعمار الفرنسي بتونس وتمدها بالسلاح الذي يفتك بالعمال التونسيين أنفسهم وانضم هكذا الاتحاد إلى الجامعة العالمية للنقابات الحرة وأصبح زعيمه الشهيد فرحات حشاد عضوًا ممتازًا في الهيئة الإدارية العالمية ثم عوضه بعد موته نوري بودالي الذي انتخبه مؤتمر النقابات العالمية المنعقد في ستوكهولم (يوليو ١٩٥٣) خلفًا له.
وقد كان لانضمام الاتحاد إلى النقابات العالمية الحرة مفعوله الكبير في جلب أنصار يعدون بعشرات الملايين للقضية التونسية وأصبح العمال في مؤتمراتهم العالمية أو في مؤتمراتهم الوطنية سواء بأمريكا أو بأوروبا أو بآسيا يطالبون باستقلال تونس وبث الدعاية لها في بلدانهم ويساندون الاتحاد العام التونسي للشغل في عمله من أجل تحرير وطنه وكان عملا مثمرًا جدًّا إذ كتل الأغلبية الساحقة من التجار وأرباب الصنائع حتى أصبح عدد أعضائه يفوق خمسة وخمسين ألفًا وانتظمت النقابات بدورها في اتحادات جهوية ويسير الاتحاد كله هيئة إدارية ينتخبها المؤتمر العام الذي يجمع ممثلين عن النقابات ينتخبهم الأعضاء العاملون مباشرةفأصبح الاتحاد التونسي للتجارة والصناعة بعد ثلاث سنوات إحدى القوات الوطنية الكبرى يساند الحركة القومية مساندة فعالة وقد تيقن ألا نهضة اقتصادية ممكنة في بلاد مستعمرة ولذا كان مبدؤه هو التحرر الوطني والعمل لاستقلال تونس وهو أقوى المنظمات القومية عددًا وأعضاؤه في ازدياد مطرد وقد بلغوا في ديسمبر سنة ١٩٥٢ أكثر من مائتين وخمسين ألفًا ولكن ينبغي ألا ننسى أن تونس بلاد فلاحية قبل كل شيء وأن الاستعمار الفرنسي هدد المزارعين قبل غيرهم بانتزاع أراضيهم منهم بشتى الوسائل والتضييق عليهم أدبيًّا وماديًّا حتى يملوا ويغادروا أراضيهم بيعًا وهجرة فيستحوذ عليها المعمرون الفرنسيون ولذا استجابوا لنداء اتحادهم بسرعة فانتظموا في نقاباته التي غطت البلاد بشبكة محكمة وتصدى الاتحاد لتلقينهم الروح التعاونية وذوبان مصلحة الفرد في مصلحة المجموع ومصلحة الأفراد لا تتم إلا بمصلحة المجموع وكون فيهم روح النظام والنقد الإنشائي والامتثال بعد الاقتناع وتيقن الاتحاد العام للفلاحة التونسية أنه لا يبلغ هدفه ما دام الاستعمار الفرنسي مسيطرًا على البلاد التونسية ولذا قرر في مؤتمراته السنوية أن هدفه الرئيسي هو استقلال تونس ولنذكر بجانب تلك المنظمات القومية الكبرى الاتحاد النسائي التونسي الذي يجمع عددًا وافرًا من النسوة العاملات وجامعة قدماء المحاربين التونسيين التي تكتل في صفوفها ما يقارب ستين ألفًا من قدماء المحاربين والاتحاد العام للطلبة التونسيين والاتحاد الكشفي التونسي وقد ساند الحزب وأعان أدبيًّا وماديًّا على تأسيس وازدهار مئات من الجمعيات الأدبية والثقافية والرياضية لأنها أحسن مدرسة لتكوين المواطن الصالح القادر على القيام بواجباته ولأنها أيضًا تقوم بعمل إنشائي واسع عميق في جميع الميادين وهكذا أصبح الشعب التونسي شعبًا واعيًا مرتبط الأجزاء متكتلًا في مؤسسات قومية عتيدة منظم القوى في جميع الميادين.
فإما أن تجيب فرنسا رغباته وإما أن يرمي بتلك القوات في الميدان لأنه اعتمد في كفاحه على الله وعلى نفسه أولًا وبالذات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى