فكر

الخيط الرفيع: استراتيجية التفتيت في الصراع العربي الإسرائيلي

د. طارق عبد الحامد
تمهيد:
على مدار أكثر من قرن، ظل الصراع العربي الإسرائيلي محوراً للتحليلات السياسية والعسكرية. لكن ثمة “خيط رفيع” لم يُنتبه إليه بشكل كافٍ، يتمثل في استراتيجية متدرجة هدفت إلى تفكيك الكتلة العربية الموحدة، وتحويلها إلى كيانات متنافرة، تمهيداً لإضعاف المقاومة وتحقيق حلم “إسرائيل الكبرى” من النيل إلى الفرات. هذه الاستراتيجية لم تكن وليدة الصدفة، بل نتاج سياسات متعمدة تعود جذورها إلى وعد بلفور (1917)، ومرت بمراحل متتالية من الحروب والاتفاقيات، انتهت بتفتيت الفلسطينيين أنفسهم.

السياق التاريخي: من وعد بلفور إلى تأسيس الدولة
– وعد بلفور (1917):* مهد الوعد البريطاني بإنشاء “وطن قومي لليهود” في فلسطين لزرع بذرة التقسيم، مستغلاً حالة الضعف العثماني وتواطؤ القوى الاستعمارية.
– الانتداب البريطاني (1920–1948):* خلاله، شُجعت الهجرة اليهودية، بينما قُسمت المنطقة العربية إلى دويلات (سايكس بيكو)، مما أضعف أي كتلة عربية متحدة.
– نكبة 1948:* أعلنت إسرائيل نفسها دولة، وتم طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين، فيما فشلت الجيوش العربية في منع التقسيم بسبب غياب التنسيق.

المرحلة الأولى: تفكيك الكتلة العربية الكبرى
بعد حرب 1948، حاولت الدول العربية تبني خطاب مقاومة موحد، لكن إسرائيل وحلفاءها عملوا على تفكيك هذه الكتلة عبر:
1. تحييد العراق:
– دعمت إيران في حربها ضد العراق (1980–1988)، ثم غزو العراق عام 2003، مما حوله من قوة محورية إلى دولة منهكة.
2. عزل دول المغرب العربي:
– ركزت دول المغرب على قضاياها الداخلية (كالصراع في الصحراء الغربية)، مما قلل من دورها في الصراع.

المرحلة الثانية: تفكيك دول الطوق عبر السلام
دول الطوق (مصر، سوريا، الأردن، لبنان) كانت العمود الفقري للمقاومة. لكن إسرائيل استغلت الانقسامات الداخلية لتفكيكها:
– معاهدة كامب ديفيد (1979): أخرجت مصر من الصراع، وحولتها إلى شريك أمني، مما أفقد العرب أقوى جيش.
– معاهدة وادي عربة (1994): حيدت الأردن، وقلصت دعمه للفلسطينيين.
– احتلال الجولان (1967): فصل سوريا عن المواجهة المباشرة.

المرحلة الثالثة: تفتيت فلسطين عبر أوسلو
اتفاقية أوسلو (1993) لم تُنهِ الاحتلال، بل قسمّت فلسطين إلى كيانات منفصلة:
– الضفة الغربية: خضعت لحكم ذاتي محدود تحت سيطرة أمنية إسرائيلية.
-قطاع غزة: أصبح معزولاً جغرافياً وسياسياً.
– انقسام فتح وحماس (2007): حول الصراع الداخلي الفلسطيني غزة إلى كيان منفصل، بينما ضعفت سلطة السلطة الفلسطينية في الضفة.

المرحلة الرابعة: عزل غزة وتركيز المواجهة
– الحصار الإسرائيلي (2007–الآن):حُوصرت غزة، بينما توسعت المستوطنات في الضفة.
– الحروب المتكررة (2008، 2014، 2021):* ركزت إسرائيل ضرباتها على غزة، مع إبقاء الضفة تحت الاحتلال “الهادئ”.
– تصوير حماس كعدو وحيد: روّجت إسرائيل لرواية أن “حماس = إرهاب”، مما شوه النضال الفلسطيني الموحد.

المرحلة الخامسة: محو غزة وإزالة العقبة الأخيرة
اليوم، تسعى إسرائيل إلى:
– تصفية قضية اللاجئين: عبر رفض حق العودة.
– ضم الضفة الغربية: عبر التوسع الاستيطاني.
– القضاء على حماس: عبر الحروب والعقوبات الجماعية، تمهيداً لـ”حل نهائي” يمحو غزة ككيان جغرافي وسكاني.

الإجراءات الإسرائيلية منذ وعد بلفور: أدوات التفتيت
1.  الحروب الاستباقية: كحرب 1967 لاحتلال باقي فلسطين والجولان وسيناء.
2.  الاستيطان: تغيير ديموغرافية الأرض لتصبح الضفة جزءاً من “إسرائيل الكبرى”.
3.  الاتفاقيات الثنائية:كامب ديفيد، أوسلو، إبراهام، لضمان عدم عودة الكتلة العربية الموحدة.
4.  الاستخدام الذكي للانقسامات: كالدعم المالي لإضعاف منظمة التحرير، وفقاً لاستراتيجية “فرق تسد”.

الخاتمة: هل يُمكن كسر الخيط؟
استراتيجية التفتيت نجحت جزئياً، لكنها واجهت مقاومة من شعوب لم تستسلم. التحدي اليوم هو إعادة توحيد الفلسطينيين أولاً، ثم العرب ثانياً، حول رؤية تحررية تعيد الاعتبار للقضية كصراع وجود، لا مجرد حدود. إن كشف هذا “الخيط الرفيع” ليس للاستسلام، بل لفهم الأدوات التي يجب مواجهتها، قبل أن يُكتَب الفصل الأخير من مسيرة التفتيت.


هذا المقال لا يدعي وجود مؤامرة مطلقة، بل يحلل نمطاً تاريخياً من السياسات والإجراءات التي خدمت مصالح طرف على حساب آخر، في صراعٍ تتداخل فيه الأوراق الدولية مع الإرادات المحلية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى