فكر

قراءة إمبريقية في تلاشي واندثار الدول

بقلم: عماد خالد رحمة | برلين

حملت قصة تواجد الإنسان في هذا الكون، الكثير من التساؤلات الكبرى. بل إنّ َالإنسان وحده هو من الأسئلة الكونية الكبرى، لأنَّ هذا التواجد له مغزىً ومعانٍ يحمله التاريخ البشري، ليوصله إلى التاريخ الإنساني. ولهذا الكائن مغزىً كبير في تاريخ الإنسان، لأنَّ قصة الإنسان ووجوده في الكون تقوم على ثلاثة أبعاد رئيسية هامة: (الإنسان والزمان والمكان)، وما يحمله كل بعد من هذه الأبعاد من تطوراتٍ عدّة في سيرورة تاريخ الأمم والثقافات المختلفة المتنوعة. ومن المتوافق عليه تاريخياً أنَّ الإنسان منذ لحظة وجوده على الكرة الأرضية كان وما يزال كائناً عاقلاً ومفكراً. لكن مع ظهور نظرية التطور بدأ البعض يتحدث عن تطور الفكر الإنساني وبنيته العقلية، وكما رفض كثيرون هذه النظرية لأنها تتعارض مع الكتب المقدّسة نجد أنَّ الكثيرين قد قبلوها أيضاً لكن الطرفين اتفقا على أنَّ الإنسان يتطور فى طريقة تفكيره ومن ثم يتطور نمط سلوكه،والدليل على ذلك الاكتشافات والاختراعات الهائلة التي يتم الإعلان عنها كل يوم. من هنا بدأ الحديث المعمق عن متى وكيف اكتشف الإنسان ما أطلق عليه (عضلات التفكير (Thinking muscles)،وتاريخ الفكر، ومراحل نموه وتطوره. وهنا ظهرت مصطلحات الخرافة والأسطورة واللغة والمنطق التي سادت لفترةٍ طويلةٍ.. إلخ . والإنسان من وجهة نظر الفيلسوفان اليونانيان أفلاطون وأرسطو هو كائن عاقل يتميز بعقله. وهو مُكَلّف ومُناط بالمسؤولية الكبرى شبه المطلقة وبالجزاء. ولكن الفلسفة الحديثة والمعاصرة أحدثت انقلاباً كبيراً في تحديد ماهية الإنسان وبنيته، هذا الانقلاب شمل تقييماً دقيقاً لقدراته العقلية والمعرفية والثقافية، فهي لم تُعطِ الأبعاد العقلية والمنطقية أي اعتبار كما في التصورات الفلسفية القديمة، ليس هذا فحسب، بل قامت بتهميشه واستبعاده، واعتباره مجرّد قوى لا شعورية أوغريزية، حيث يُعتبر الفيلسوف الألماني فريدريش فيلهيلم نيتشه وهو من أشهر الفلاسفة الذين اهتموا بإزالة العقل من موضوع التصوّرات الفلسفية للإنسان، وكان هذا التصور منطلق لدراساته الفلسفيّة، وكان مدخلاً لتعريف الإنسان وما هيته ودوره ونتاجه، فقد رأى نيتشه أنَّ العقل هو غريزة كالغرائز الأخرى مهمتها فقط أن تُبقي الإنسان على قيد الحياة طالما هو دائم التفكير، وتم اعتبار الأبعاد الغريزية الفطرية المكوَن الأساسي للذات الإنسانية بكل مكوناتها وتلاوينها، وأنَّ ماحصل في الثقافة الإنسانية منذ صيرورة التاريخ وعبر سيرورته من اضطرابات، يعود إلى تبديل وظيفة العقل ودوره، وتحميله المسؤولية الكبيرة شبه المطلقة فيما يخص الحقيقة والأخلاق بشكلٍ عام، وهذا ما جاء في كتابه: (العلم المرح)، الذي يُعتبر تحضير للنظريات الكبيرة مثل (إرادة القوة) أو (العودة الأبدية) و (الإنسان المتفوق)، وغيرها، والكتاب كما هو معروف شيء للسخرية من الحقائق التي يعتبرها الفيلسوف فريدريش نيتشه، بالية كالقيم التي تدعمها، والتي إذا انتصرت مرة هنالك (فتساءلوا بكل ارتياب عن الضلال الذي دافع عنها فأولاها انتصارها) ، شأن حقائق العلماء والمفكرين التي ينصح بالحذر منها لأنّ أصحابها لعلَّة عقمهم يكرهون الراقين، فهو يقول :(وعيونهم باردة جافة لا تلقى نورها على طير حتى تعريه من ريشه، إنهم يباهون بامتناعهم عن الكذب، فاحذروا من هذه المباهاة لأن المجال بعيد بين من عجز عن الإتيان بالكذب ومن أحب الحقيقة. كما أنَّه قلّل من القيم الأخلاقية التي يتسم بها العقل مثل الرحمة والتسامح والغفران، ووصفها بأنها أخلاق ضعف وعبودية لا تدلُّ على أيّ نوعٍ من السيادة والقوة والحكمة. كما ورد في كتابه الهام (جنيالوجيا الأخلاق) وهو كتاب سجالي نشر عام 1887 م ويتكوَّن من تصدير وثلاثة مقالات متتالية والتي تسهب وتكمل المفاهيم التي صورها نيتشه في ما وراء الخير والشر. ولأنَّ نيتشة دعا مراراً إلى تغيير وظيفة العقل من معرفية إلى مجرد وسيلة لخدمة الغرائز، وبذلك عمل على إلغاء فكرة الأنا هو الذي يفكر.
إنَّ مسيرة ارتقاء الفكر البشري تكاد تتوازى مع صيرورة الفكر الذي سار عليه بعض الفلاسفة وعلماء الأنثروبولوجيا وبعض علماء الاجتماع نحو التقدم، في إطار ما يصدر من رؤى وأفكار مادية للوجود الكلاني .
لم تكن تلك التطورات والمراحل المختلفة، التي مر بها التاريخ عبر سيرورته، واحدة أو موازية كورونولوجياً أو زمنياً في كل ثقافات البشر وحضاراتهم الإنسانية المتعاقبة، ومع التطورات التي ألمّت بحياة الناس في المجتمعات المختلفة والمتنوعة، لم يكن الفكر التاريخي استثناءً على الإطلاق ، فالتاريخ يعتمد على مركزية الماضي، والماضي السحيق أيضاً، ومنها يتم بلورة ملامح المستقبل القريب والبعيد.
وتشكل الحداثة صيغة ومنوالاً ومنهاجاً خاصاً بدأ يتبلور بوضوح في القرن التاسع عشر، وهو قرن العلم الحديث بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، حيث برزت أسماء فلاسفة لامعين كبار : مثل رينيه ديكارت صاحب المنهج الجديد في الفلسفة، وبسببه سمي ديكارت بـ (أبو الفلسفة الحديثة). والسير إسحاق نيوتن ،و برتراند أرثر ويليام راسل ،وجان جاك روسو،وفرانسوا ماري آروويه ويُعرف باسم شهرته فولتير، والفيلسوف الألماني مارتن هيدغر، جميعهم صنعوا فكر العالم الحديث. وعلى يد هؤلاء الفلاسفة، توسع الفكر في تناول قضايا العقل والميتافيزيقا والوجود الكلي بمقدار ما اخترق كل العلوم من التكنولوجيا إلى موارد القوة الشاملة،أو القوة التكاملية الاقتصادية والعلمية والتنظيمية والإدارية.وكان الهم الأكبر لهؤلاء الفلاسفة،هو نشر فكرة استقلال (الأنوات) جمع (أنا) ،(لذوات) جمع (الذات) سياسياً وأخلاقياً واقتصادياً، بمعزل عن كل الوصايا الهامة، ما عدا وصاية العقل المشترك. وقد قامت الحداثة على نزعة إنسانية جديدة ترى في الإنسان تلك الذات الحرّة والفاعلة المنفلتة من قيود العبودية والتسلّط، صانعة عالمها الخاص بها المنتجة لمواردها ومصادرها، والمواجهة للتاريخ بكل ما فيه نحو تقدَّمٍ محتوم لا محالة، إنها بانية الحضارة الإنسانية الحديثة، ثم مهّدت التصور الآلي والتكنيكي للعالم، الطريق للإنسان نحو العالمية الكوسموبوليتيك والثورة الجينية وثورة الشرائح الذكية، فالعلم البيولوجي دخل إلى دهاليز الخلية ونواتها، وسبر أغوار جوهرها، فضبط الشفرة الوراثية على أكمل دقة، مما مكَّنه من التحكم والسيطرة وإقامة التعديلات وتغيير الهندسة الجينية التي كانت نتائجها قد أذهلت العالم .
لقد أحدث هؤلاء الفلاسفة والمفكرين تحوَّلاً عميقاً في البنية المعرفية الأساسية للعلم في العالم الحديث، بما أسسوا من أساليب وطرائق سبرت أغوار المعرفة السياسية والعلمية في العالم المادي الذي نعيش، والنسبج المعقَّد والمتشعب للتجارب الإنسانية، وكل التقدم الإنساني والفكر والتجربة. والنزعة الإنسانية ما بعد الحداثة في خضم الغوص في بحار العلم وأمواجه المتلاطمة الذي يوفق بحيوية بين العمق والوضوح. وأبرز هؤلاء الفلاسفة والمفكرون قدراتم من خلال مراكز التفكير السياسي في دوائر مؤسسات وهيئات وإدارات الحكم الغربية، وأكدوا لما يجب أن تقوم عليه الحضارة الغربية، في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، من قيم ونواميس كبرى،وليس فقط سياسات تجريبية عملية، بل سرديات تاريخية وسمت هذه المراكز بالتحدي السياسي والاجتماعي، في ظل تعدد الأهداف وتنوع الإيديولوجيات.وقد شاهد العالم بشكلٍ صريح هذه المناظرات الكبرى في جميع المحطات العالمية حول الحداثة ونتائجها وما بعد الليبيرالية،واحتلت حيزاً كبيراً في كتابات المفكرين الأوروبيين والأمريكيين على السواء والذين تركوا للعالم مجلدات حول هذا الموضوع ، وطرحوا أسئلة مهمة نابعة من واقع بعض البلدان في العالم ومنها البلدان العربية، وتفسير طبيعة الأحداث، وسير الأجيال من حروب وفقر ومجاعات وجهلٍ، وانهيار واضمحلال العمل التأسيسي في القطاع الاقتصادي والقطاع الإداري وما تعانيه هذه الدول من فضاء للموت والفناء والإنمحاء عوض أن تكون مجالاً للنمو والحياة. إن ما يرسمه هؤلاء المفكرين حسب رؤاهم وتوقعاتهم أنّ هناك العديد من الدول سوف تندثر خلال العشرين عاماً القادمة .بسبب تخلفها وجهل شعوبها وفقرهم،عدا عن الحروب الدموية الطاحنة والنزاعات المستمرة التي حطمت حاضرها ومستقبلها بسبب بعدها عن الحداثة والعقلانية وإدراك موضوعيتها،ما أدى إلى سقوطها المدوي في مهاوي العدمية والفوضى والضياع ،وانقسمت دينياً وطائفياً وقومياً وعرقياً وجغرافياً ومناطقياً وتشظت أركانها وبنيانها ، تلهمها نزعات عدمية ويغذيها تعصب شوفيني أعمى،حتى أصيبت بالموات والتحلل والتحجر في تطور البيئة المادية والعلمية والتكنولوجية ، وتخلف في النظام الإداري بشكلٍ مخيف إلى تجاوزها إلى البيئة البشرية،وخاضت غمارالاضطرابات،وتحلل المجتمعات، والحروب الأهلية،والتعصب القومي وعادت إلى ما قبل الدولة. وكأن هذه الدول تعيش زمن القرون الوسطى والعيش في الكهوف المظلمة بكل تفاصيلها المعرفية والإنسانية والسياسية والدينية والاقتصادية والردة الاجتماعية أي اصطدامها المدمِّر مع فطرة الإنسان ومكنون الروح وتطلعاتها وسموّها ورفعتها .
كل هذه العوامل قد تؤدي إلى انهيار كامل وانحلال لهذه الدول وتهيئ لتلاشيها واندثارها. وهذا ما يجعل البشرية سائرة إلى البوار والتصحر الإنساني، وبذلك لا مناص من أن يكون نظام عالم المستقبل شيئاً مختلفاً تماماً عن منظمة الأمم المتحدة والجمعية العامة للأمم المتحدة الحاضرة التي، لم تنتج إلا مزيداً من الانقسام والتشرذم الدولي والاجتماعي والإنساني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى