ظهر جدتي

عمر حمش / .فلسطي

في طفولتي كنتُ حائرا في أمرِ ظهرِها الذي ينحني إلى شكل زاويةٍ قائمة، وكانت حيرتي تشتدّ كلما أمَّي تقول:
من اليهود.
وتتدافعُ صورُ عسكرٍ يثنون ظهر جدتي الصبيّة.
قالت أمي: جدك هاجر إلى الخليل من بعد طردِه من المجدل، سنة فقط، نصب نوله في بيت أمر، ثمّ دهمه السرطان، فتسلل بعائلته راغبا الموت جوارنا في غزة، جاءنا مريضا يقودُ زوجه المنحنية عبر ممر الجبال، معهما أخوالك الثلاثة.
كانت أمّي تقول: اليهود. ولا تزيدني، كنت أرقبُ جدتي بوجهها المريمي، ناصعا صافيا، وأستمع لطريقتها في لفظ الحروف وهي تخاطبني، فأخاطبها بلساني، وعقلي شاردٌ في سبب انكسار ظهرها.
كثيرا ما تخيلت الجند يقصفونها بالعصي، أو يدقونها بأعقاب البنادق، وتصورت ضابطا يأمر: كفى. من بعد سماعه لفرقعة عمودها الفقري، حتى جاء يومٌ كنت فيه مع رفقتي، جاءت جدتي زقاقنا، ظهرها منكسر، ووجهها في الأرض، يرمقُ التراب، هرولتُ لأمسك بيدها، وأستمعُ إلى دعائها الرب: أن يحفظني. ولما قدتُها؛ وجدتني أسارعُ بالسؤال: جدتي، كيف كسر اليهودُ ظهرَك؟
رمتني بنظرة، وخلتُ عينيها الزرقاوين ترقرقان دمعتين، صمتُّ في حضرة صمتِها، إلى أن ألقتْ بجسدها النحيل على فرشةِ فناء كوخنا الصغير، دارت بعينيها، وسألتني عن أمِّي. قلت: أمي في سوق المخيم. فوجدتها، تأمرني بالهبوط جوارها، لأكتشف رغبتها بالكلام.
قالت جدتي، وقد اعتدل ظهرها لبرهةٍ:
كنا في حظر تجوال، وقد جمعونا نحن المتبقين في حارةٍ واحدةٍ من حاراتِ المجدل.
ومن بعد تنهيدة، أكملت:
كنا ستة، أنا وجدك، وكانوا أخوالك وقتها أربعة، وطال الأمر، وامتدّ الحظرُ أسبوعا كاملا، في اليوم السابع، خالك الرضيع انطلق يبكي، صاحَ بتواصلٍ، كمن ينادي القدر.
صمتت جدتي، صمتت طويلا، وأنا المأخوذُ، كنت أعلمُ بهولِ ما ستلقيه على مسمعي.
قالت: فجأة، وبدون حساب، وجدنا خالك الأكبر يحمل أخاه، ليفتح الباب، كان ينوي إسكات أخيه مع رؤية مشهدِ الشمس والهواء..
واهتزّتْ كمن يسمعُ بالأمر، ويراه للمرة الأولى:
فتح خالك باب الدار، وسمعنا الرصاصة.
قالت: رأينا الاثنين يهويان على العتبة.
ورأيتُ اختناقها، والدنيا تعودُ إلى النواح..
قالت: في دقيقةٍ وصلوا، سحبوا جثة خالك إلينا، ثمَّ أغلقوا الباب، فانثنيتُ أتحسسُ عينيه، انثنيتُ، ومن بعدِها لم يرتفع ظهري.
وشهقتْ جدتي؛ لتقول:
عادوا بأربعةٍ، وبأربعة معاول .. سحبوه، ليدفنوه هناك بصمت.
قالت جدتي: دفنوه، ثمّ طردونا كلنا، وكان ظهري قد تيبس، ووجهي انحنى إلى الأرض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى