العرض الأخير لشهرزاد

د. إيهاب بسيسو | فلسطين

 

أدَاؤُكِ الأخِير لم يَكُن مُتقَناً كالمُعتَاد
وأنتِ تَقفِزين عَلَى خَشبَةِ المَسرَحِ
كَهِرَّةٍ مَذبُوحَةٍ …
بَدَت وقَد نَسِيَت النَّصَ المَكتوبَ عَلَى الجُدرَان …
لتَجُرَّ خَلفَها خَيطَ دَمٍ فَاقِعٍ
كَصُرَاخٍ لَزِج …
مَمطُوطاً كهِسِتيريَا غَاضِبَة …

لم يَكُن مُتقَناً أدَاءُ المَوتِ تِلكَ اللَّيلَة …
أو مُكثَّفاً دُونَ اقتِضَاب …
رغمَ الدَّوي فِي الخَارجِ
وصُراخِ مُقاتِلين فِي عَبثِ رَصاصٍ مُتقَطِّع …

المَسرَحُ كَهفٌ مَعزولٌ
أو رُبَّما مَنسِيٌّ
أو لم يَعُد مَرئِياً في الضَّجِيجِ الخَانِق …

غَيرَ أنَّه فِي عُروضٍ سَابِقَةٍ
كانَ يَستَدرِجُ ظِلالَ القَتلَى مِن صَخبٍ كَثِيفٍ فِي المَعارِك …
علَّهم يَجِدوا مَساحَةً
ولَو بِحَجمِ سَماءٍ صَغِيرَةٍ من بَقَايَا مَدِينَةٍ
قَبلَ حَرب …
كَي يُشاهِدُوا مَوتَهُم فِي نَصٍّ غَرَائِبيٍّ التَّكوِين …
مَحفُورٍ على الجُدرَان
كتَعَاوِيذَ غَامِضَةٍ
ولعَنَات …
أعَدَّه عَابِرون كُثُر من جُروحٍ غَائِرَة …
وأخرَجَتهُ الذَّاكِرَةُ حِينَ التَقَت بِصُرَاخٍ امرَأَةٍ نَاجِيَةٍ
مِن قَصفٍ لَيلِيٍّ …
فأسكَنَتها عَلَى خَشَبةِ المَسرَحِ
ومَنحَتها جَسداً فِي السَّردِ
وصَوتاً …
ثُمَّ أقنَعَتها بِأن تَكونَ الرَّاوِيَةُ لوَقتٍ مُرتَبكٍ بَينَ الدَّويِّ وحِكَايَاتِ النَّجَاةِ من المَوت …

فِي عُروضٍ سَابِقَةٍ
كانُوا يَأتُون بِعفوِيَّةِ أَقدَامٍ مِن قَلَق …
يَجلِسونَ عَلَى المَقَاعِدِ المُهتَرِئَةِ
لمُشَاهَدَةِ الوَقتِ يَمضِي بِهِم من الغِيَابِ إلى استِعَادَةِ مَلامِحَهم من صُورٍ مُمزَّقَة …
وأُخرَى غَرِقَت فِي أعمَاقِ البَحر …
وأُخرَى طَفَت فَوقَ المَاءِ
وأُخرَى نَجَت …
ثُمَّ هَوَت كَنجمَاتٍ بَعِيدَةٍ فِي المَنفَى …

فَيُصَفِّقُون
ويَبكُون …
ثُمَّ يَرحَلُون إِلى مَقَابِرِهِم مُطمَئِنِّين
إِلى الإِنشَاءِ فِي اللُّغَةِ
وخِطَابِ المَوتِ المُقدَّس …
وضَرُورَةِ الغِيَابِ فِي المَجَاز …
وبَرَاعَةِ صَقلِ الحِكَايَةِ
مِن يَومِيَّاتٍ مُضَّطرِبَة …

المُدهِشُ فِي الأَمرِ أنَّ المَسرحَ تِلكَ اللَّيلَة لم يَكُن مُكتَظاً بالمُشَاهِدين …
بَل كانَ فَارِغاً كثَلاَّجَةِ مَوتَى
سَلَّمَت آخِرَ القَتلَى لآخِرِ سيَّارَةٍ لِنقلِ الجُثَثِ
كانَت تَعمَلُ ذَلِكَ اليَوم …

كُنتُ هُنَاك …
فِي تِلكَ العَتمَةِ المُوحِشَة …
أُشَاهِدُ تِكرَارَ المَأسَاة …

وأراكِ من حُزنٍ خَفِيٍّ في أقصَى زَاوِيَةٍ من أضلاَعِ العتمَةِ
امرَأةً عَلَى خَشبَةِ المَسرحِ
تَقفِزُ كَهِرَّةٍ مَذبُوحَةٍ …
بِعَينَين ضَبَابِيَّتَين …
وصَوتٍ مُختَنِق …

لم تَعُد تَكتَرِثُ بأدَاءِ النَّصِ المَكتُوبِ عَلَى جُدرَانِ
الكَهفِ – المَسرَح …
أو رغبَةِ الذَّاكرِةِ في صَونِ الحِكَايَاتِ
من اندِلاَعِ الفَراغِ في الحُطَام …
لتُصبِحَ نَصَّ مَوتٍ عَبثِيٍّ في جَسدٍ
يَصرخُ
ويَبكِي …
ويَطعَنُ ذَاتَه بِخنجَرٍ من ضَجِيجٍ دَاخِليٍّ
أخفَتهُ بَينَ أضلُعِ الوَقت …
كحَربٍ في الحَربِ …
كمَوتٍ في المَوتِ …
يُسهِبُ في ضَيَاعٍ أَسَود
وهَذيَانٍ …
يَعبَثُ بِبَقَايَا الأمكِنَةِ
كمَا تَعبَثُ الرِّيحُ بِوُجوهٍ مِن رَمَاد …

بَدَا لي أنَّنِي المُشَاهِدُ الوَحِيدُ تِلكَ اللَّيلَة …
أو رُبَّمَا القَتِيلُ الأَخِيرُ
الذي يُشَاهِدُ مُونودرَاما المَوت …
ولا يُصفِّقُ فِي نِهَايةِ العَرضِ
كالمُعتَاد …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى