رسالة إلي كل مكروب ومحزون
د. عادل المراغي أكاديمي وأديب مصري.
سيجعل الله بعد عسر يسرا، ولن يغلب عسر يسرين، وبعد الجوع شبع، وبعد الظمإ ريّ، وبعد السهر نوم، وبعد المرض عافية، سوف يصل الغائب، ويهتدي الضالّ، ويفكّ العاني، وينقشع الظلام (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو بأمر من عنده).
بشّر الليل بصبح صادق سوف يطارده على رؤوس الجبال ومسارب الأودية، بشّر المهموم بفرج مفاجئ يصل في سرعة الضوء ولمح البصر، بشّر المنكوب بلطف خفيّ وكفّ حانية وادعة.
إذا رأيت الصحراء تمتد وتمتد، فاعلم أن وراءها رياضاً خضراء وارفة الظلال.
إذا رأيت الحبل يشتد ويشتد، فاعلم أنه سوف ينقطع.
مع الدمعة بسمة، ومع الخوف أمن، ومع الفزع سكينة.
فلا تضق ذرعاً، فمن المحال دوام الحال، وأفضل العبادة انتظار الفرج، الأيام دول، والدهر قُلّب، والليالي حبالى، والغيب مستور، والحكيم كل يوم هو في شأن، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، وإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً.
يوسف لما صار في ظلامة الجب، ثم في ضيق السجن، كرباً على كرب، وهماً على هم، فماذا حصل بعد ذلك؟ تداركته رحمة الله عز وجل، وهي قريب من المحسنين، فأخرجته من ظلامة الجب، ومن ضيق السجن إلى سعة الملك، وبسط في العيش، وجمع بأهله في حال الرخاء بعد الشدة.
وهذا يعقوب ﷺ: عمي من كثرة البكاء والحزن على فقد ولديه، وابيضت عيناه فهو كظيم، تداركته رحمة الله بعد سنوات من الشدة، ومفارقة الأولاد الأحباء إلى نفسه، فجمعهم الله سبحانه بهما على غير ميعاد منهم.
وهذا يونس في بطن الحوت: لما نزل به البلاء دعا ربه في مكان ما دعا به أحد من الناس ربه، في جوف البطن المظلم، فاستجاب الله دعاءه.
وهذه سيرة نبينا محمد ﷺ فيها شدائد، وأهوال، وكرب، وهموم، ومنها شدائد المواطن التي نصره الله بها في معاركه ضد المشركين. وهذه عائشة رضي الله عنها: لما نزل بها من الضيق الشديد عندما اتهمها المنافقون، وردد ذلك معهم الذين لم يعوا الأمور من المسلمين، ولم يتثبتوا فيها، فاتهموا تلك المسلمة العفيفة، زوجة رسول الله ﷺ، بأنها قد وقعت في الفاحشة وهي منها بريئة، فصار رسول الله ﷺ يدخل عليها فلا يكلمها، ولا يتلطف معها كما كان يتلطف، واشتعلت الفتنة من حولها، والألسن تلوك في عرضها وهي البريئة، حتى بكت الدموع أياماً متواصلة، حتى انقطع دمعها، وكان لا يأتيها النوم، ثم جاءها فرج الله بتبرئتها من فوق السبع الطباق، وفرج الله همها، وأذهب كربها.
وهؤلاء الثلاثة من أصحاب رسول الله ﷺ: الذين خلفوا، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، بعد أن عزلهم الرسول ﷺ عن المجتمع المسلم، ونهى الناس عن تكليمهم، فصاروا غرباء في أهلهم وذويهم، حتى وصل الحال إلى أن أمر زوجاتهم بفراقهم، فصاروا كالمبتوتين من المدينة، الذين لا يتصل بهم أحد، ولا يكلمهم أحد، حتى نزل فرج الله سبحانه وتعالى بالتوبة عليهم، فوسع الله عليهم بعد أن كانوا في ضيق، ونفس عنهم بعد أن كانوا في كربة.
وهؤلاء الثلاثة من بني إسرائيل الذين دخلوا في الغار فانطبقت عليهم الصخرة: فرج الله سبحانه وتعالى عليهم بعد أن أيقنوا بالموت والهلاك.
وهذا إبراهيم وسارة: نجاهما الله من الجبار الكافر الذي أراد أن يأخذهما، بل إن رحمة الله واسعة تشمل الكافر لو كان في كربة عندما تنزل به إذا شاء ربك أن يفرج عنه.
ومن صور الفرج بعد الشدة ما ورد عن بقي ابن مخلد الأندلسي أنه جاءته امرأة فقالت: إن ابني قد أسره الروم، ولا أقدر على مال أكثر من دويرة ولا أقدر على بيعها، فلو أشرت إلى من يفديه بشيء، فإنه ليس لي ليل ولا نهار، ولا نوم ولا قرار، فقال: أنصرفي حتى أنظر في أمره إن شاء الله، وأطرق الشيخ وحرك شفيته قال: ولبثنا مدة، فجاءت المرأة ومعها ابنها، فأخذت تدعو له وتقول: قد رجع سالماً، وله حديث يحدثك به، فقال الشاب: كنت في يدي بعض ملوك الروم، مع جماعة من الأساري، وكان له إنسان يستخدمنا كل يوم، يخرجنا إلى الصحراء للخدمة، ثم يردنا وعلينا قيودنا، فبينا نحن نجئ من العمل مع صاحبه، الذي كان يحفظنا، إذ انفتح القيد من رجلي، ووقع على الأرض، ووصف اليوم والساعة، فوافق الوقت الذي جاءت المرأة، ودعاء الشيخ.
قال: فنهض إلى الذي كان يحفظني، وصاح علي: كسرت القيد؟ فقلت: لا، إلا أنه سقط من رجلي. قال فتحيروا في أمري، ودعوا رهبانهم فقالوا لي: ألك والدة؟ قلت لهم نعم. فقالوا: وافق دعاؤها الإجابة، وقالوا: أطلقك الله، ولا يمكننا تقييدك، فزودوني وأصحبوني إلى ناحية المسلمين.
الحديث عن الترمذي: (أفضل العبادة انتظار الفرج) وكما قال سبحانه: (أليس الصبح بقريب)!.. صبح المهمومين والمغمومين لاح، فانظر إلى الصباح وارتقب الفتح من الفتّاح، تقول العرب: (إذا اشتد الحبل انقطع) والمعنى إذا تأزمت الأمور، فانتظر فرجاً ومخرجاً.
وقال سبحانه وتعالى: (ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً) وفي الحديث الصحيح: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء) وقوله تعالى: (فإن مع العسر يسرا. إن مع العسر يسرا) قال عمر بن الخطاب – وبعضهم يجعله حديثاً- : (لن يغلب عسرٌ يسرين)، ومعنى الآية أنه لما عرّف العسر ونكّر اليسر، ومن عادة العرب إذا ذكرت اسماً معرّفاً ثم أعادته فهو هو، وإذا نكّرته ثم كررته فهو اثنان. وقال سبحانه: (إن رحمة الله قريب من المحسنين)، وفي الحديث الصحيح: (واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب)، وقال الشاعر:
إذا تضايق أمر فانتظر فرجاً
فأقرب الأمر أدناه إلى الفرج
يقول بعض العلماء: إن الشدائد – مهما تعاظمت وامتدت- لا تدوم على أصحابها، ولا تخلد على مصابها، بل إنها أقوى ما تكون اشتداداً وامتداداً واسوداداً، أقرب ما تكون انقشاعاً وانفراجاً وانبلاجا، عن يسر وملاءة، وفرج وهناءة، وحياة رخيَّة مشرقة وضّاءة، فيأتي العون من الله والإحسان عند ذروة الشدة والامتحان، وهكذا نهاية كل ليل غاسق فجر صادق.
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي
ويحمد غِبَّ السير من هو ساري
ومن صور الفرج بعد الشدة أن أصاب الفقر والحاجة شيخ القراء في زمانه عاصم بن أبي إسحاق، فذهب إلى بعض إخوانه فأخبره بأمره، فرأى في وجهه الكراهة، فضاق صدره وخرج لوحده إلى الصحراء، وصلى لله ما شاء الله تعالى، ثم وضع وجهه على الأرض، وقال: يا مسبّب الأسباب! يا مفتَّح الأبواب! ويا سامع الأصوات! يا مجيب الدعوات! يا قاضي الحاجات! اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمّن سواك، يلح على الله بهذا الدعاء- حتى قال: فوالله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعة بقربي، فرفعت رأسي فإذا بحدأة طرحت كيساً أحمر، فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانون ديناراً وجوهراً ملفوفاً في قطنة، فبعت الجواهر بمال عظيم واشتريت منها عقاراً، وحمدت الله تعالى على ذلك.
وذكر ابن كثير عند تفسيره لسورة الطلاق قال : جاء مالك الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أُسر ابني عوف. فقال له: أرسل إليه فقل له إن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله. فأتاه الرسول فأخبره، فأكب يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وكانوا قد شدوه بالقد فسقط عنه فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها فإذا هو يسرح القوم الذين شدوه فصاح بها فأتبع آخرها أولها فلم يفاجئ أبويه إلا وهو ينادي بالباب، فقال أبوه: عوف، ورب الكعبة،.. فقالت أمه: واسوأتاه عوف كئيب بألم ما فيه من القد.. فاستبق الأب والخادم إليه فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا.
فقص على أبيه أمره فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: اصنع ما كنت صانعا بإبلك ونزل قوله تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب).