شيزوفرينيا المثقف العربي.. هدى شعراوي نموذجا
هشام محمود | شاعر وإعلامي
بمناسبة مرور ١٤١ سنة على ميلاد هدى شعراوي، أستعيد هذه الأفكار
أتصور أن ثمة مشاكل كثيرة تعترض طريق المثقف العربي، حتى يكون مثقفا عضويا فاعلا في مجتمعه، وقادرا على أن يلقي حجرا في بحيرة الثقافة العربية الراكدة منذ زمن بعيد، والتي تعاني هي الأخرى مشاكل كثيرة، فعلى الرغم من تعدد الروافد التي تستقي منها هذه الثقافة أصولها، تاريخيا ودينيا وقوميا وحضاريا، فإنها باتت مقيدة بأفكار رجعية لا طائل من ورائها، وبات المثقف هو الآخر انعكاسا مشوها ومشتتا وملتبسا لهذا، إلى حد أن كلمة (مثقف) ذاتها تكاد تكون من الكلمات غير الواضحة في وعي المثقف نفسه.
أذكر أن حوارا مطولا دار بيني وبين إحدى المستمعات حول تعريف كلمة (مثقف)، يومها لم نصل إلا إلى أنه هذا الشخص الذي يعرف ولو شيئا عن كل شيء، وعندما ذَكَرَتْ تتمة شائعة لهذه المقولة “ويعرف كل شيء عن تخصص ما” قلت: ليس بالضرورة، فعندئذ سنكون أمام مثقف متخصص، أيا كان الأمر، فقد مر وقت يكفي لمراجعة كل هذا.
وربما يمكن أن نتفق ولو قليلا على أن المثقف هو هذا الشخص الذي يستطيع بشجاعة أن يراجع أفكاره ومواقفه دائما، ويهذبها ويختبرها في واقعه العام والخاص، فيقيم المعوج من هذه الأفكار والمواقف، أليس أصل الكلمة من ثقَّف الشيءَ أي هذَّبه وأقام المعوج منه وسواه، بما لا يقطع الطريق أمام المبدع الذي هو مطالب بالتأكيد بإحداث ثورة في إبداعه، فهذا أمر آخر.
ولأمر ما لن أستطيع أن أفك هذه التوأمة بين الأفكار والمواقف، حيث يمثل التوافق بين أفكار الإنسان ومواقفه أحد أهم مقومات الصدق، ليس بمعناه الأخلاقي وكفى، ولكن أيضا بما يوحي به من اتساق الإنسان مع ذاته، والتزامه القيمي بما يدعو إليه ويبشر به، حتى لا يعيش فصاما أو ازدواجا في شخصيته أو شيزوفرينيا، فهذا قد يعني أنه غير مقتنع بأفكاره على وجه حقيقي، أو أنه لا يستطيع الالتزام بها فيما يقوم به من مواقف، ولا يستقيم هذا مع ما يبديه المثقف من نظريات مجردة، ومزايدة على غيره في مفاهيم متعلقة بالأخلاق أو الوطن أو حتى الجمال والإبداع، ومن النماذج المقيتة والكريهة لهذا أن ينتقد أحدنا ظلم السلطة، أو امتهان طبقة لأخرى، لكنه على مستوى المواقف يسيء استخدام سلطته على زوجته وأبنائه أو مرؤوسيه، وننتقد سلوك الآخرين في أمور نفعل ما هو أشد وأنكى منها، وأسوأ ما يكون هذا من المثقف، الذي يرفع رايات تجديدية وحداثية، ويبدي أفكارا مستنيرة، بينما تدل مواقفه على انغلاق كريه، وتشدد صارم، واستبداد مكتمل الأركان.
أعرف أن مواقف الإنسان وحياته الشخصية أمر يخصه فقط، ولكن هل يمكن أن يصف لك طبيب دواء وتقبله منه، وأنت تراه لا يستعمل هذا الدواء؟ إن الأمر يبدو بالفعل على هذا النحو، لدرجة أنك تقرأ لكثير من المثقفين العرب الذين يصدعون رؤوسنا حديثا عن حرية الرأي والفكر، في حين أنك لو أبديت رأيا مخالفا لما يقول، ولو في إحدى جماليات الكتابة، فإنه سيذهب كل مذهب في نفيك وإقصائك ومصادرتك، وبالتأكيد تعرفون هذا الشاعر الذي أخذ موقفا من القصيدة الجديدة إلى حد أن استغرق وقتا في كتابة كتاب عنها يسميه (القصيدة الخرساء)، لمجرد أن ثمة مشاكل حالت بينه وبين سماعها والإنصات إلي أصدائها.
ويشبه هذا حال كثير من مثقفينا التنويريين الذين يؤمنون تماما بحرية المرأة، ولكن فقط المرأة التي لا تخصه، فهذه لها التهميش والقهر، بحيث لا يتورع عن استعمال كل ما يستطيعه معها من تسلط واستبداد، إنك يا صديقي المثقف تهدم فكرك بانفصالك عنه.
ونذكر جميعا هذه التفاصيل الخائبة حول قضية (أحمد الفيشاوي) منذ سنوات والتي كانت محل حديث وجدل في كثير من الصحف والبرامج لشهور عديدة، ربما كان أكثر ما اجتمع عليه متابعو هذه القضية التي وصلت إلى ساحات القضاء أنه كان الأفضل والأجدى أن يعترف الأب ببنوة طفلتة، وتتم تسوية الموضوع بما يضمن عدم امتهان علاقات خاصة جدا على هذا النحو، وألا تتحمل المرأة وحدها جريرة ما حدث، لمجرد أنها امرأة، وأن تكبر الطفلة فلا تجد نفسها على صفحات صحف وفي برامج تليفزيونية، في شكل سيسبب بالتأكيد لها مشاكل كثيرة، لمجرد أن لها (أبا نذلا)، على حد تعبير المستشار الذي حكم في القضية، والذي استشهد في المحكمة بقصيدة لنزار قباني ورد فيها هذا التعبير، وتنتهي القضية بعد كل هذا الإسفاف بالحكم بإثبات البنوة (للأب النذل).
ورغم أن هذه القصة برمتها تبدو غير مقبولة، في مجتمع مفترض أن يكون قد خطا خطوات واسعة جدا، على طريق الانتصار للمرأة، والتخلص من ميراث ذكوري كريه، ولكننا وبقليل من البحث في سيرة رائدة تحرير المرأة ونصيرتها الأولى في ثقافتنا العربية (هدى هانم شعراوي)، سنجدها كانت بطلة لقصة لا تقل سخفا وامتهانا للمرأة عن قصة (الفيشاوي)، وقامت بأكثر مما قامت به أمه (سمية الألفي)، التي ظلت طوال الفترة التي شهدت قصة ابنها ضيفة في برامج تتحدث فيها حديثا أخلاقيا متعاليا وكريها، وكان هذا الأكثر بفعل سطوتها ونفوذها وطبقتها ومالها أيضا.
وهدى هانم شعراوي هي ابنة محمد سلطان باشا، رئيس مجلس النواب المصري الأول في عهد الخديوي توفيق، وكان من المتعاونين مع الاحتلال البريطاني بشدة، ويقال إنه حصل على مئات الأفدنة نظير خدماته الجليلة للقصر والاحتلال معا، أما هي فكانت طليعة السيدات اللاتي شاركن في ثورة 1919م، وأسست اتحاد المرأة المصرية المتعلمة، وجمعية الرقي الأدبي للسيدات، والاتحاد النسائي المصري، وطالبت برفع المستوى التعليمي للمرأة، ومساواتها بالرجل في كل الحقوق والواجبات، وأبدت حرصا كبيرا على قضية المرأة، والدفاع عنها، في مواجهة ظلم المجتمع.
ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، أو تأتي المواقف بما يفضح أشهر أمراض المثقف العربي، الممزق بين أفكاره ومواقفه، حيث تدعو نصيرة تحرير المرأة، وإحدى أهم رائدات العمل النسائي إحدى المغنيات هي (السيدة فاطمة سري)، لإحياء حفل في منزلها يحضره نجوم المجتمع الراقي، هذه المغنية كانت إحدى رائدات المسرح الغنائي، وهي أول مصرية تغني أوبرا كاملة هي (شمشون ودليلة)، ويعجب الجميع ويصفقون لهذه المرأة التي غنت يومها (بدال ما تسهر على قهوة/ تعالى نشوي أبو فروة/ بيتك مع عيلتك أولى/ من لعب الطاولة)، ولكن (محمد بك شعراوي) ابن علي باشا شعراوي (أحد قيادات ثورة 1919م) وصاحبة العصمة السيدة (هدى شعراوي) تجاوز الإعجاب والتصفيق، ووقع في غرام المغنية الأرتيست (فاطمة سري)، وتزوجها بورقة عرفية، وعندما أحس قلقها بعد قرب ظهور ثمرة الزواج، حاول إغراء زوجته بشيك بمبلغ كبير، فمزقته وألقته في وجهه، وقبل أحد أسفارها إلى أوروبا، كتب لها إقرارا بصحة الزواج، وكانت (فاطمة) قد احتاطت للأمر، فنسخت بضع صور لهذا الإقرار، الذي طلبه الزوج، فأعطته صورة منه شديدة الإتقان ومماثلة تمامًا للأصل، فاعتقد أنها الأصل نفسه، فأخذها وذهب إلى بيته حيث أحرقها أمام أفراد أسرته، تحت ضغوط من أسرته، وبالتحديد من أمه (نصيرة المرأة والمدافعة عن حقوقها)، وظن بهذا أن الأمر قد انتهى، وترسل (فاطمة) رسالة بليغة ومؤثرة إلى (هدى هانم شعراوي)، تخاطب فيه الأم، كما تخاطب زعيمة الحركة النسائية التي تسعى إلى سن قانون يحتم على الرجال الاعتراف بالابن غير الشرعي، فكيف وابنها هو والد شرعي؟! ولما لم تجد أذنا مصغية من السيدة (هدى شعراوي)، رفعت الأمر إلى ساحة المحاكم، وكسبت (فاطمة) القضية، ووصلت القضية إلى محكمة الاستئناف بعدما طعنت العائلة في الحكم الأول، وأيدّت محكمة الاستئناف الحكم الأول بثبوت نسب الطفلة (ليلى) إلى (محمد بك شعراوي)، في حكم نهائي، ووصل الأمر إلى أن رفع (شعراوي بك) دعوة لضم الطفلة بعد ذلك، وعاشت في كنف الوجيه ووالدته الهانم، وحرمت زعيمة الحركة النسائية أما من ابنتها، وبنتا من أن تكون في حضن أمها، وبهذا قتلتهما مرارا، ففى مشهد درامى سلمت الممثلة (فاطمة سرى) ابنتها إلى أبيها وجدتها (هدى شعراوى) في المحكمة، وتم حرمانها من رؤيتها نهائيًا، حتى ماتت في نهاية الثمانينات.
وكانت رائدة حركة تحرير المرأة والعمل النسائي قد اتخذت كل الطرق الممكنة، لإزاحة فاطمة وابنتها من طريق ابنها (الوجيه الأمثل)، والتي ربما كانت تناسب أحد أثرياء الخردة أو تجارة العملة من أيامنا، إنها طرق ومساومات لا تقبلها أم تفكر في سعادة ابنها، فضلا عن سعادة امرأة أخرى هي زوجة ابنها، وبنت هي طفلته من زواج لا تريد الاعتراف به، حرصا على طبقتها، وكان من هذه المساومات أن تأخذ فاطمة (25 ألف جنيه) ثمنا لسكوتها والتنازل عن القضية، وتخيلوا إغراء هذا المبلغ في عشرينيات القرن الماضي، وفي حوار معها قالت (فاطمة): “عندما أدركوا أنني لا أريد شيئا إلا ضمان مستقبل ابنتي، أوفدوا إلي الأستاذ إبراهيم بك الهلباوي، فجاءني يعرض علي اقتراحا جديدا، رفضته بكل ثقة وشمم، ذلك أنهم أرادوا أن يأتوني برجل من صنائعهم، يعقد قرانه عليَّ، ويكون عقد القران سابقا لمولد ابنتي، ويعترف ذلك الرجل ببنوة الطفلة، فلا تنشأ مجهولة الأب، وتصبح ابنة شعراوي أمام القانون ابنة رجل آخر”.
والجدير بالذكر أن صحفا كثيرة لم تتطرق إلى هذه القضية، لحساسية الموقف من زعيمة المرأة (هدى شعراوي)، كذلك لم تذكر (هدى شعراوي) في مذكراتها أي حديث حول قضية كانت محل تقاض في ساحات المحاكم، ويذكر أن مكرم عبيد كان محامي فاطمة سري في هذه القضية، ومما قيل أيضا وربما صدق أو لم يصدق، أن هدى شعراوي حاولت استمالة سعد زغلول إليها فرفض، وأنها هددت بتلفيق قضية لفاطمة سري للضغط عليها حتى تتنازل عن حقها، وأيا ما كان الأمر فإن ما يخصنا هو هذا التناقض الحاد بين ما نفعله في الواقع وما ننادي به.
وبالطبع نستطيع أن نتبين في هذه القضية نظرة دونية للمرأة وقضاياها التي ندافع عنها، أعني (هدى شعراوي)، التي دعت للاهتمام بالأسرة، ونادت برفع السن الأدنى للزواج للذكور والإناث، وسعت لوضع قيود للطلاق من طرف واحد، والحد من ظاهرة تعدد الزوجات، وأيدت تعليم المرأة وعملها المهني والسياسي، ودعت إلى خلع غطاء الوجه، وقامت بخلعه علنا وأمام الناس، أين كل هذه الأفكار وكل هذا النضال مما اتخذته في الواقع من مواقف؟! وأين رؤيتها المعلنة للفن ودوره في المجتمع مما فعلته مع (فاطمة سري) لمجرد أنها أرتيست، تطلبها للغناء في بيتها لنجوم المجتمع وتصفق لها معهم، وترفض بشدة أن يتزوج منها ابنها.
وحتى يكتمل المشهد يستعير مصطفى أمين هذه القصة، ويكتب فيلم (فاطمة) بأمر من أم كلثوم، وفوق سطح بيتها، وتقوم أم كلثوم ببطولة فيلم بنفس الاسم، ولكنها في الفيلم ممرضة تمرض الباشا ويحبها أخوه الأصغر، ويجبره الباشا على التخلص منها، وعدم الاعتراف بابنه، ويستخدم الباشا سلطته وماله ونفوذه، تماما كما فعلت (نصيرة المرأة)، لقهر المرأة، ولكن (مصطفى أمين) يصنع نهاية سعيدة لم تحدث في الواقع، فيعود الأب إلى (فاطمة) التي تقام لها زفة شعبية، وتغني (نصرة قوية)، أما الواقع فما زال يرزح تحت خيبة قوية، وربما خيبات كثيرة، لتناقض هذا المجتمع المريض، ومن قبل ومن بعد شيزوفرينيا يعانيها مثقفوه، وصراع كبير بين ما يدافعون عنه في أدبياتهم وعبر كتاباتهم ونضالهم، وما يتخذونه من مواقف منفصلة تماما عن هذا النضال وهذه الكتابات.