العقل العربي..( مقاول أنفار….)
د. مدحت عبد الجواد | مصر
أذكر أني وقتها كنت قد انتهيت من المرحلة الإعدادية حيث كان الوقت هو إجازة نهاية العام، وكان على أن أعمل طيلة هذه الإجازة حتى أستطيع أن أوفِّر نفقات تكفي لدخول الثانوية العامة، تصادف أن رحلتي هذا العام للعمل في محافظة بورسعيد، وهناك لأول مرة عرفت مفهوم مقاول الأنفار، كنا نصطف ونفترش الرصيف، وكلنا أمل أن يمر بنا مقاول أنفار فالعمل شحيح، وباتت أعيننا تتعلق بهذا الأمل كل يوم بل كل لحظة من يومنا، وكأنه المنقذ لأحلام البسطاء، وقتها كل ما كنت أفكر فيه هو ..أجر اليوم (اليوميّة)، وكل ما كان يفكر فيه صاحبنا المقاول المال.
حقيقة كانت نوعية الأعمال تتطلب وجوده، لكن جودتها ترفض تفكيره، وتقدمنا يستدعي استبداله بالمبدع المخطط.
كان حديثي السابق عن أسس الإصلاح، وقد بدأت بالمرأة، أما الأصل الثاني فإنه يكمن في (إتقان العمل)، ذلك الذي دعا إليه رسول- الله صلى الله عليه وسلم – (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)، إتقان العمل له أسس ومتطلبات، فإن العمل فسد بالمحسوبيات، والوساطة؛ فصارت فوضى العمل تتحكم في أمورنا، فهذا يركب منصبا لايستحقه، ويستبعد الجدير به ويحرم؛ لأنه لايملك وساطة، وهذا خريج جامعة في تخصص ما، وتم تعيينه في غير ما درسه خلال رحلة عمره، عليه أن يقبل أو يموت جوعا، وظهرت شخصية العامل الفهلوي، ذلك الذي يعرف كل شيء في جميع الأعمال، وظهرت شخصية العامل المخادع الكاذب الذي يحرص على خداع أصحاب المصالح، وظهرت شخصية صاحب العمل النصاب، كل هذه الصور وغيرها، باتت منتشرة في حياتنا، فقدنا ضمير العمل الصادق، فقدنا ضمير حب العمل، ونسينا دوره في بناء الأوطان، ولم نرقب حب الله، إن الفوضى والفساد طالت كل قطاعات الحياة، حتى أفقدت الشباب الأمل في ثمرة التعليم، وأفقدتهم الأمل في مستقبلهم، وأفقدتهم الإيمان بالوطن، وحب الوطن، فساد منظومة العمل في بلادنا صار واقعا مريرا، بات معرقلا لكل إصلاح.
اليوم وبعد كل هذه السنين…
تذكرت… لماذا كانت زوجتي تتشاجر معي عندما أدخل المطبخ؛ لأنني غالبا ما أقلب الترتيب والنظام رأسا على عقب، محدثا لفنون من الفوضى التي ربما كلفتها مجهودا مضاعفا؛ لتعيد الترتيب كما كان سابقا.
لم أعد متضجرا منها؛ لأنني تعلمت من الحياة أن البشر صنفان من جهة التنظيم: صنف هو متقدم؛ لأنه يخطط، وينظم، ويرتب أفكاره، وخطواته، ومن هنا يأتي النجاح والتقدم .
وصنف يعمل بعقلية مقاول الأنفار (تجميع العمال وتسكينهم، وتدوير عجلة العمل)، وليس مهما عنده … كيف تدور ؟!!
ولا إلى أين تدور ؟!
المهم… العمل يدور ظاهريا، والأنفار يعملون…
وإن غاب عامل استبدلناه بغيره….
وكم من جهد بذل دون فائدة ! وكم من ثمرات وموارد ضاعت على أصحابها !!
قابلت من هؤلاء الكثير، قابلت مقاولا برتبة مدير ومقاولا برتبة وكيل……
وغيرهما الكثير – وإن اختلفت مسميات الوظائف –
ولعلك تعجب أن يقول لك صاحب مدرسة، أو شركة مهددا للجميع أنني أستطيع أن أجمع غيركم من أى مقهى، خلال ساعة واحدة فلا يهمني..من أنتم !!
ولا يهمه إبداعكم، أو درجاتكم العلمية، فالعمل سيسير بكم وبدونك؛ لأن مجتمعنا لم يعد يهتم بالتخطيط والإبداع.
إن جريمة هؤلاء في عقولهم، وإنهم ليرتكبون في حق الأوطان جناية أبشع من جناية القتل …أمثالهم فاشلون، خربوا الأوطان…!!!
وإني لأحزن كل الحزن، عندما أجد أن أغلب من يسكنون قطاعات الأعمال يفكرون بهذا المنطق، ويبدو أن عقلية مقاول الأنفار تسيطر على الفكر العربي، من يفكرون بهذه الطريقة يخربون الإصلاح،
فما أشبههم بالكائنات التي تعمل دون فهم، وتحمل ما تحمله دون معرفة لطبيعة ما تحمله .
مرت السنون، وأنا ناقم على هذه الصورة التي لم تفارق ذهني بل اقترنت عندي بصورة عمال الترحيلة، غير أن الفكرة باتت غير بعيدة عني، فباتت تطالعني من آن لآخر .
صورة مضحكة مبكية لحال الذين يتصرفون بعشوائية دون تخطيط .
ترى متى نذبح هذه الكائنات الفضائية؟!
فقد انتهى دورها، وكفانا ما أحدثته من خراب ودمار…
أم ترانا نتعلق في أذيالها، فإما أن ترفسنا أو تتعسنا..!!