رحلة إلى الجنوب اللبناني قامت بها وفاء كمال (18)
سحمر قاع الدم الأول ( 18)
الليل في سحمر قط بري.. مكتظ بالاحتمالات المربكة والتوقعات المفاجئة.. لكنه لم يكن محايداً كما كان في هذا اليوم فصوت الـ ( ب ـ 7 ) الذي دوى في الواحدة ليلا.. والقنابل المضيئة التي لحقته أكدت أن العمليات التي ينفذها عناصر جبهة المقاومة هي عمليات جريئة ونوعية. تقف مثل الحصى في عيون الفرق التي كانت تسعى للتطبيع
فتح عبد اللطيف النافذة وتطلع بالسماء المشتعلة بالقنابل المضيئة. ثم عاد ليندس في فراشه وهو يخاطب نفسه: الشجاعة التي تصدر عن شبان هذه القرية لاتعادلها شجاعة. استيقظ أبو خليل على دوي القنابل, وعندما تربعت الشمس في كبد السماء, علا صوت المذيع.. يخترق البلدة :
ـ كل شاب تجاوز الخامسة عشرة سنة. وحتى الستين الاجتماع في, وادي الزيتون قرب منزل رامز الخشن .
فاندفع غالب إلى الخارج ليجد أعمامه وأولادهم يجهزون انفسهم للذهاب, حاول غالب منعهم لكن ابن عمه قال:
ـ لو لم نذهب سينبشوننا من تحت الأرض
ـ أتسلمون أنفسكم كالذبيحة للجزار؟
لم يجد غالب أمامه سوى خيارين, أن يسقط في حضن الوهم, أو يفرَّ وحيداً. وكان محتاطاً لمثل هذا الهروب. فمضى إلى تبَّانة المنزل وفتح فتحة صغيرة في زاوية غرفة الحطب ليصل إليه بصيص من الضوء. ولكي لاتنقطع عنه التهوية. وليتمكن من مراقبة الخارج. وساعدته شقيقته بتصفيف الحطب حوله. فأحس بانقباض صدره, وخصوصاً عندما تساقط التبن فوقه ودخل منخريه, فسبَّبَ له نوبات عطاس شديدة. كانت تهز كومة الحطب التي تحيطه ..عبثاً يحاول أن لا يعطس لكن محاولاته تنوء بالفشل. فيدخل دائرة جديدة من العطاس لم تتوقف إلا على خطى ضائعة تركض في كل الاتجاهات وأصوات عالية تشق الفضاء فالجميع يشعر بالخطر يحيق بهم.
داهم غالب إحساس بالوحدة والنفي, شعر كأن العالم سينتهي ويصبح دماراً. فاهتاجت روحه بالبكاء, واستحضر أرواح من يحبهم وهو يعلم أنهم مضوا بأرجلهم نحو التهلكة. فانخرط ببكاء مخنوق لكنَّ الصخب اختطفه من جديد. فألصق أذنه بالجدار استطاع أن يميز شجاراً بين قوات لحد ونساء الحي.
وفجأة علا صوت شقيقه الأصغر يا غالب… ياغالب.. لقد قتلوا أهالي البلدة كلهم .. قتلوا ابن عمك خليل وأصابوا زينب بظهرها وعبد اللطيف أصيبت ساقه . شعر وكأن الدنيا تهتز في رأسه. وأن العالم كله يقف فوقه. صار دمه كالنفط ولم يبق منه سوى عينين مفتوحتين على اتساعهما تحضنان الدهشة والرعب. لم يعد قادراً على التفكير فقد تحوَّل رأسه الصغير إلى عربة تطن فيها مئات الحشرات الصغيرة, وتلقي به وحيداً عاريا على مشارف الدنيا .. فنهض من مخبئه رغم أنه مطلوب من الإسرائيليين بتهمة تهريب سلاح للمقاومة..
ألقى عنه الحطب وخرج مسعوراً. فهاله المشهد..النساء مجتمعات ونحيبهن يتعالى في الفضاء. فاتجه والتبن يتطاير من شعره ليرى الجنود عن بعد يرمون بالجرحى في لاندروفر لَحْديّ وكأنهم أكياس قمامة. وقد توجه اللاندروفر بحمولته إلى بلدة القرعون المجاورة .
كان عامر موسى يشير إلى ساقيه المصابتين بالرصاص. وحسين علاء الدين يتألم بقسوة وقد غطى الزبد الوردي فمه فقد كان مصاباً بصدره. فصاح عامر:
ـ حسين…حسين ..ثم انفجر حسين مات يا كلاب ..يا أنذال
كان صوته قريباً من النواح لكنه لم يبك .. لم تسقط له دمعة .. ثوان انقضت استشهد شاب آخر. حيث بدأ الإسرائيليون يمثلون دور المنقذ.
سيطر على الجرحى شعور لايطاق فهو مزيج من الإحساس بالقهر والذل والخيانة. حتى ذكريات القرية والمقاومة الوطنية التي تسكن رؤوسهم لم تعد قادرة على حمل الاطمئنان لهم .. ولم يعد الكثير من الجرحى يعون ما يحدث من شدة آلامهم. أصيب عامر بالحمى وبدأ يهذي، ونُقِلَ بعض الجرحى للطائرة.. ولم يستيقظ معظمهم إلا على سرير في مشفى صفد في الأرض المحتلة. وممرضات إسرائيليات تحطن بهم.
قال عامر متمتماً: تباً لكم تقتلون القتيل وتمشون في جنازته ..
سيطر على عامر شعور بالغثيان, وشعر أنه محاط بمئات الأفاعي.. حين بلغه أنه بحاجة إلى تدخل جراحي سريع. إذ كيف له أن يثق بالإسرائيليين وهم الذين تسببوا بالمجزرة، بعد أن أقنعوا اللحديين اللبنانيين أن المقاومة كانت تستهدفهم ليثيروا بذلك الفتنة بين الدروز والشيعة .
راح صوت المنادي ينبعث من مئذنة القرية ينعي شهداء المجزرة التي نفذها الإسرائيليون بأياد لحديّة لدبِّ التفرقة بين اللبنانيين.
سيطرت حالة من الرهبة في فضاء القرية فوق جميع الأطفال والنساء والناجين من المجزرة .وكل من رأى ذلك المشهد من قوات لحد قال: إن سحمر قرية قلبها من حجر. وبعضهم قال: إنها بدون قلب إطلاقاً .فهي تستهدف الموت .
كانت سحمر يومها مفطورة القلب تنزف دماً فالجنازات التي حملتها في (20 أيلول 1984).. كانت تتضاعف بأولادها الذين يستشهدون في الدروب الوعرة للمقاومة الباسلة
يتبع …