من ذكريات الثانوية العامة

د. عنتر صلحي | جامعة جنوب الوادي – مصر

يوليو 1991: أذهب لزيارة خالي، فأجد عنده كتاب النحو الوافي لعباس حسن، وأتعجب من كبر حجم الكتاب في أربعة مجلدات مقارنة بما كنا ندرسه في المدرسة الثانوية العامة من بعض القواعد المختصرة في كتاب النحو والصرف. فأنكب على الكتاب أقرأ فيه برغبة جامحة، خصوصا بعد أن عانيت في فهم أبيات ابن مالك في الألفية وألفاظ ابن هشام في قطر الندى وبل الصدى اللذين قرأتهما لأفهم ما يقوله طلاب المعاهد الازهرية ويتفاخرون به علينا -نحن أبناء المدارس العامة- من أبيات شعرية وشواهد نحوية لا نفهم منها شيئا، بل لا نعرف معنى كلمة شاهد أصلا. 

 

أغسطس 1991: أقرأ كتب مناهج السنة الثالثة الثانوية قبل بداية الدراسة وألتهمها التهاما استعدادا لبداية السنة المحورية الفاصلة في عمر كل المصريين. 

سبتمبر 1991: 

يودُّ الفتى أن يجمعَ الأرضَ كُلَّها ـــــ إليهِ ولمَّا يدْرِ ما اللهُ صانعُ 

فقدْ يستحيلُ المالُ حتفًا لربِّهِ ـــــ وتأتي على أعقابهِنَّ المطامعُ 

تقرر النص الجديد لمحمود سامي البارودي بعنوان دعوة للثورة على الظلم في كتاب الأدب العربي للصف الثالث الثانوي سنة 1991، وكنت مغرما بقصيدة البارودي القديمة (في سرنديب) والتي مطلعها:

 لكل دمع جرى من مقلة سبب… وكيف يملك دمع العين مكتئب

وكنت أحفظها قبل أن تبدأ الدراسة، فلما بدأت الدراسة وجاءت الاخبار بأن المنهج تغير، وأن قصيدة البارودي الخالدة قد استبدلت بهذه القصيدة الجديدة، أصبت بخيبة أمل في النص الجديد، ولم أجده بروعة السابق المحذوف.

غير أن كلمة واحدة أثارت اهتمامي في النص الجديد، وأغوتني للبحث عن إعرابها في موضعها المميز من الجملة، وهي كلمة (حتفا) في البيت الثاني. وما أثارني كان أن الفعل السابق عليها (يستحيل) له خصوصية نادرة، قلّ من يعرف بشأنها.  فـ يستحيل (المضارع من استحال) من الأفعال التي تتضمن معنى (صار)، وتتلبس بمعنها ووظيفتها فتعمل عمل أخوات (كان) وإن لم تكن من أخواتها؛ وبالتالي، فالإعراب الصحيح لكلمة (حتفا) هو أنها خبر (يستحيل منصوب بالفتحة الظاهرة لتلبس يستحيل بمعنى الصيرورة)، و(استحال) ليس الفعل الوحيد الذي يعمل هذا العمل، فهناك أفعال أخرى مثل (غدا) و(أرتد) في مثل قوله تعالى (فأرتد بصيرا)، وطبعا كل هذا عرفته من اطلاعي على كتاب النحو الوافي. 

أكتوبر 1991: 

نصل مع مدرس اللغة العربية إلى دراسة هذا النص، ويأتي السؤال الذي انتظرته طويلا: من يعرب حتفا؟ فأنبري لها، لكن الأستاذ يختار غيري، فيقول الزميل إنها حال منصوبة، فيقبلها منه الأستاذ مثنيا عليه، فأقف معترضا، وأقول إن الإعراب خطأ، وأن الصواب غير ذلك، فيقول الأستاذ: “وأيه الصح يا فكيك؟” فأقول إنها خبر يستحيل منصوب، فتنفجر عاصفة الضحك في وجهي من الأستاذ والطلاب أجمعين.  وتبدأ السخرية مني: “من إمتى يستحيل من أخوات كان؟” “إحنا ناقصين أخوات جديدة لكان؟” قلت: “هي مش أخوات كان ولكن تلبست بمعنى صار”، قالوا: “شكلك أنت اللي تلبسك عفريت”. فأجلس مخذولا محسورا. 

في نهاية الشهر يستدعيني المدير للمشاركة في مسابقة أوائل الطلبة بالإدارة التعليمية، ونجلس على طاولة التنافس مع الأوائل، فنفاجأ بالسؤال مرة أخرى من مدير الإدارة (ما إعراب حتفا؟)، فينظر إلي زملائي متوجسين، وعيونهم تتوسل ألا أخرب الدنيا كما فعلت سابقا، لكني لا أنتظر وأتلقف الميكرفون وأقول (هي خبر يستحيل)، فينهرني مدير الإدارة، ويقول (بتقول إيه؟) فأقول (هكذا هي عند عباس حسن وفي الألفية) فيقول: (بلا ألفية بلا ملوخية)، ونخسر المنافسة. 

نوفمبر 1991:

أخيرا يظهر كتاب الأضواء الملخِص لكتاب اللغة العربية للمنهج الجديد، ويهرع إليه المعلمون والطلاب لبدء سلسلة الدروس الخصوصية الجديدة، ولكني لا أهتم بالاطلاع عليه. وفي صباح اليوم التالي، يدخل معلم اللغة العربية الأستاذ عبد الرحيم الجرودي بمدرسة الغريزات الثانوية، ويقول بكل شجاعة: “أنا أعترف أمامكم أنني أخطأت وكان زميلكم هو المصيب، وقد آذيناه بالسخرية منه، والحق أن نكرمه ونحييه على شجاعته و إصراره على الحق. الكلمة تعرب خبر يستحيل كما ذكر كتاب الأضواء، وكما أخبرنا قبل ذلك فلان، وأنا أمامكم أطلب منه أن يسامحني وأصفق له تشجيعا”، تنطلق عاصفة التصفيق والصفير، وأشكر الأستاذ على أدبه وذوقه وتواضعه، وأخجل منهم، وأشكر الله على ظهور الحق. 

… يرسل المدير صورة صفحة كتاب الأضواء للإدارة التعليمية، ويخبرهم أن إجابتنا كانت صائبة، وأن خسارتنا في المسابقة غير عادلة، فتفيد الإدارة بأن النتيجة لن تتغير، لكننا نحي الطالب المذكور…   

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى