متاحف الجماجم ومقابر الأرقام تفقأ عيون المُطبّعين

شوقية عروق منصور | فلسطين

 

صرخ يوماً الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” وطني! لم يعطني حبي لك غير أخشاب صليبي….. صور الجماجم الجزائرية التي حطمت شاشات الفضائيات برعشة عظامها وحفر العيون التي كانت تنظر من بعيد، قادمة من صدأ الاستعمار الفرنسي الذي صنع من تلك الجماجم التي كانت يوماً ثائرة، متحفاً يلتهم باستمتاع تاريخ قسوته واستعماره على الدول الضعيفة.

 

 

 

 

 

قبل أسبوع رجعت جماجم الثوار إلى الجزائر، ليس كابوساً ودفاتر شيكات تُصرف في بنوك الرضى والغفران الاستعماري، رجعت الجماجم بعد أن كانت على رفوف متحف الغرور الاستعماري في باريس.

لقد تعطفت وتكرمت الحكومة الفرنسية بالإفراج عن رفات 24 شهيداً من رموز المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي في منتصف القرن التاسع عشر، وقد كان الاحتلال الفرنسي أعدمهم بقطع رؤوسهم، وأخذ الرؤوس إلى العاصمة الفرنسية بحجة الدراسات “الأنثروبولوجية”.

وكانت قضية الرؤوس المقطوعة قد تفجرت عام 2011 حين كشف المؤرخ الجزائري علي فريد بالقاضي خلال بحثه حول المقاومة الشعبية الجزائرية، عن المتحف المتواجد في باريس ويضم 18 ألف جمجمة من مختلف أنحاء العالم، منها جماجم جزائرية معروضة تطلق تنهدات الوطن، وتبكي صدى تاريخ الكبرياء المحبوس في صناديق الفرجة.

لقد أشار الباحث” علي فريد بالقاضي” إلى جانب متحف الجماجم، أنه في عام 1845 قتل الاستعمار الفرنسي 1600 عائلة جزائرية من قبيلة “أولاد رباح”، والتي لا تُعرف أين جماجمها.

أما الجماجم التي برزت في المتحف الفرنسي – العار- كما أطلق الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر صرخته “عارنا في الجزائر” فكانت جمجمة ” الشريف بو بغلة ” قائد المقاومة في منطقة القبائل و “عيسى الحمادي” المسؤول العسكري لديه و”الشيخ بوزيان” قائد ثورة الزعاطشة بالجنوب الشرقي ومستشاره العسكري موسى الدرقاوي وكذلك سي مختار قويدر التيطراوي ومحمد بن علال بن مبارك المسؤول العسكري في عهد الأمير عبد القادر.

منظر الجماجم الجزائرية التي نزلت عن رفوف المتحف الفرنسي، وركبت الطائرة عائدة إلى الجزائر، لم تستطع إحصاء القتلى والشهداء الذين قتلوا واستشهدوا بعدهم، لكن تلك الجماجم أحصت كم من ليالي الحنين والدهشة والفضول الجزائري حلمت؟ وكم من مباهج الوطن تمنَّت أن تراها بعد تلك التضحيات، وتعرف أين وصلت خطوات لاستقلال والبناء .

عنجهية الاستعمار الفرنسي ولعنة متحفه الجماجمي، ذكرتني بعنجهية الاحتلال الإسرائيلي ومقابر الأرقام الخاصة بالشهداء الفلسطينيين، وقد سميت مقابر الأرقام لأن سلطات الاحتلال تضع أمام كل قبر لافتة حديدية صغيرة تحمل رقماً يرمز للشهيد دون اسمه، وتُعتبر مقابر الأرقام مناطق عسكرية مغلقة، إذ تمنع سلطات الاحتلال الدخول إليها من دون موافقة عسكرية.

ولا تقتصر مقبرة الأرقام على مقبرة واحدة، بل هناك عدة مقابر للأرقام: مقبرة “عميعاد” قرب مدينة صفد و مقبرة” جسر آدم في غور الأردن ” ومقبرة جسر بنات يعقوب الواقعة بالقرب من الحدود السورية الفلسطينية، وقد استخدمت لاحتجاز جثامين الفدائيين المتسللين من سورية ولبنان وبلغ عدد الجثامين التي احتجزت 243 جثماناً وقد أغلقت عام 2001م.

هذه المقابر أشبه بمتحف الجماجم الفرنسي، الفرق أن المتحف فوق الأرض ومقابر الأرقام تحت الأرض، تخرج الجماجم الفلسطينية عند المساومة السياسية، وتبقى عائلات الشهداء في مواسم الحزن والسواد.

أحيناً نتوهم أننا نستطيع الخروج من غروب التاريخ، نتوهم أننا ننتقل إلى عصور جديدة ترفع قلوبنا وأروحنا من حقول الذل ومستنقعات الوجع، لكن نكتشف أن التاريخ يخيط مناديل الحزن ويعيد خيوطها إلى ماكينات الشهوة الاستعمارية والاحتلالية، التي درَّزت بإبرها خرائط الوطن، وحولته إلى قطع من الأثواب المهترئة ذات الألوان المصبوغة بأصباغ مزيفة.

نتوهم أن النوافذ والأبواب السياسية قد فتحت واللقاءات أصبحت ميادين الأعياد والزنابق البيضاء التي تزين المطارات والوفود التي تسير على السجاجيد الحمراء. وهناك من مسح الذاكرة وجعل العلاقات مع المحتل والمستعمر مرايا الابتسامات والتصريحات الإنسانية، لكن لم يعرفوا أن هناك في صهيل الخلايا وفي قاع الروح وتحت القفص الصدري غدة تشع مرارة عنوانها عدم النسيان، لن نغفر ولن ننسى ومن يحاول القول “اللي فات مات” نؤكد اللي فات هو جزء من الحاضر والمستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى