محاولة لمسح الغبار والعار عن وجه ( تدمر )
مها دعاس | ألمانيا
الكتابة عن السجن هي الفكرة الأكثر غواية بالنسبة لي والأكثر غرابة وصعوبة، ولا أملك سوى ما يبرق ويرعد في مخيلتي من صور مبهمة تماما لوجوه بلا ملامح، وعيون تلمع في الظلام وأرواح طليقة لأجساد مصلوبة، تبيت وتستيقظ حاملة صليبها على ظهرها النازف دم الانتظار، بينما أرى الأفواه مكممة بمرارة الشيح والحنظل، مغلقة على الأتربة وعفونة المكان بزواياه الحادة كساكين مثلمة بينما يتدلى أحدهم من مكان مرتفع بجسد عارٍ في غرفة مظلمة، يعلو ويعلو صوت صراخه ثم ينخفض تدريجيا حتى يتلاشى بعد فقدان الوعي .
الزنزانة، الكلمة التي تمر لتحدث صخبا مؤلما وهلعا في مرورها، لها طعم غريب، غير مألوف ورائحة لا أعرفها، لكني أستطيع أن أرى نفسي داخلها، لطالما كنت هناك خلف قضبانها، منفردة مظلمة كما الآن .
الآن أتلمس رأسي المحشور بين رؤوس المعتقلين وأنا ابنة السماء، أجلس منذ طفولتي ساعات أحدثها وأرسل لها رسائلَ كتبتها أحلامي التي بعثرتها ضراوة الصحراء في زمن منهك من أعبائه التي كسرتني .
كيف أكتب عن الظلام والظلمة وأنا أنتمي لفكرة الضوء !
تغزو رأسي صورة السجن المرعب كبيت بعيد بارد للأشباح، لكنني لم أمر حتى ولا مرة واحدة من جانبه، صورة مشوشة، لا معالم واضحة لها، لكني أستطيع أن أرى السجان بوضوح، رأيت الكثير من السجانين، إنهم يعيشون بيننا، ينسلون بين أصابعنا كقدر لا هروب منه، لهم أسماء كثيرة، أسماء لطيفة وشخصيات متعددة، إلا أن كل تلك الأقنعة لم تغيرهم كسجانين، يخفون سياطهم خلف ظهورهم بانتظار اللحظة المناسبة للانقضاض على الفريسة بسطوة الذكورة المطلقة اليد..
)تبًّا للذكورة التي تختال بين سطوري وتأخذني حيث أبتعد عن فكرتي، ربما لشدة الشبه حد التطابق بين الذَّكر والسجَّان ..) مرة أخرى ..هذا ليس ما أريد كتابته..
اللعنة، أريد أن أكمل محاولتي في الدخول إلى السجن، سجن (تدمر) سيء السمعة، ذائع الصيت، تاريخ أسود، موت قسري يتكرر بعد كل محاولة للحياة، عذاب يومي وكل ما يتراءى للمخيلة من صوت السوط وصلابة تسديده نحو الهدف بالإيلام والمزيد من الإيلام لإشباع شهية التعذيب الشرهة بلا حدود والتي تتصاعد مع تصاعد مذاق المتألم ونكهة عذابه هي غاية السجان في لحظات انتشائه السّادي المنحرف عن الإنسانية.
أشعر بخجل لا أستطيع أن أواريه عن نفسي كلما سمعت اسمك (سجن تدمر)، لا، ليس الخجل ما أشعر به فقط، إنه العار، نعم أشعر بالعار مجلجلا، مدويا في أعماقي حتى وكأنني أنا السجن، أنا القضبان، أنا وسائل التعذيب وأنا السجان، أشعر بعار يتسلل إلى تاج زنوبيا، إلى لكل حجرة من حجارتها العظيمة، يتغلغل بين حبات ترابها، رمالها، هوائها الساخن عند التقاء الظهيرة بالشمس ونسماتها النادرة عند رحيل الشمس عن السماء، في موعد للقاء عند كل فجر جديد يغطي المدينة بجلال الزرقة الهادئة، العار مجددا أراه مثل نبتة تنمو على قمم جبالها الجرداء، نبتة مشوهة بأذرع أخطبوطية شيطانية، عار يطرق أبواب أهلها الطيبين حد السذاجة .
من منكم سمع عن (تدمر) بمعزل عن سجنها؟
عن النخيل واقفا بوجه الحر، يمد يديه بشموخ في كل الاتجاهات، واثقا كمظلة لكل عابر، عن الزيتون وما أدراك ما للزيتون من حكايا يتقنها أهلها مثل صلاة يومية، عن مواسم الحصاد وصوت الحنطة يثير الشهية للحياة في صحراء تفاجئك بتعدد المواسم من الحصاد للقطاف، لجمع الملح بانتظار نيسان لتبدو المدينة وكأنها مدينة أوروبية ينعم فيها زوارها بسحر شرقي بامتياز حيث كثير من معالمها محافظة على ولادتها الأولى ..
أكتب بقلب المدافعة عن سمعة المدينة ضد سجنها الذي كان مخيفا للسامع ولأهلها على حد سواء، أكتب محاولة أن أرد لاسمها قليلا مما يستحق من صفائه، بما أمتلك من قلب وصدق فيما أحاول .
أكتب لأعتذر لكل السجناء، لكل من لم نسمع عن حكاياتهم، لكل من لا أعرفهم ولا أعرف أسماءهم، لكل من كنا نخاف أن نمر بقرب سور يفصلهم عن الحياة لأن للجدران يا أخوتي آذان، ونشأنا على الرعب من أن تسمع همساتنا فتصيبنا لعنة السجان .
لم أكتب ما أريد ولم أنجح في تفسير مشاعري ولم يساعدني الخيال على الدخول إلى السجن ولكني أشعر إنه عليَّ أن أخاطب كل من يخاف محقا اسم (تدمر) وعليَّ أن أحاول تبييض وجهها من سواد سجنها وسجانيه ومسح ما استطعت من الغبار عن وجه شمسها التي جرحها صوت السجين ودمعة أمه.