رحلة إلى الجنوب اللبناني قامت بها: وفاء كمال (22)

قاع الدم الأول (22)

كان المطر ينهمر بغزارة في الخارج والريح الخريفية تجلد ثائر, والبرد قد جمد في أطرافه, وعند الغروب نُقِل من جديد الى الكوشنر, ولم تكن ساقاه تحملانه.

بينما كرَّار في الطرف الآخر يجره على الوحل جنديان. ويغرقان جسده عدة مرات ببرك الماء حتى شعر أنه قد يموت في كل لحظة. ثم تركوه وحيدا. نزع ملابسه بصعوبة, ولفَّ جسده بغطاء صوفي قذر محاولا الوصول لحد أدنى من الدفء.

كان يرتعش كورقة خريفية تضطرب على غصنها قبل السقوط. بينما الريح تضرب بجدران الكوشنر الحديدي,  فيصدر دوياً هائلاً. كان يحس ببرد وضجيج يصخب داخل رأسه, وكأن صخب الدنيا قد تجمع داخل ذلك الصندوق العظمي الذي يحمله. لم يعرف الجميع كيف انقضى الليل.. فقد كانوا في الصباح مازالوا أحياء. كل في الكوشنر الذي يلائم تهمته.

فتح ثائر عينيه على اتساعهما. كانت الريح قد خفت والمطر قد توقف منذ ساعتين تقريباً. وشمس صغيرة تنشر أشعتها على الأرض. نهض واقترب من ثيابه، كانت لاتزال غارقة بالماء، فعصرها ونشرها وجلس يلملم الغطاء على جسده الذي بدا عليه الهزال واضحاً هذه المرة .خاطب نفسه: 

ـ عجيب أمر الإنسان !! لو أني تعرضتُ في الحياة العادية لما أتعرض له هنا لأصبت بالتهاب القصبات أو الروماتيزم أو نزلات صدرية وقد أموت. لكن يبدو أنه حتى الأجساد ترتفع مقاومتها في ظل الإحتلال. وغرق في الهواجس كأنه قد نسي غالب وفواز وجمال وزياد وغسان الذين التقى بهم في المعتقل. وظل تفكيره يتركز بأنه لابد أن يخرج من هنا.  فالتهمة التي اعتقلوه بسببها باطلة. أما غالب  فقد عُزِل في الكوشنر الآخر لم يقترب منه أحد. كان يخاطب نفسه:

لعلهم نسوني.. كان يتضور جوعاً.. ولكن توقف عنه كل شيء التحقيق والطعام. فهكذا تكون المعادلة صحيحة فهم يعطونك القليل من الخبز. ليدمروا جسدك بالتحقيق. أما زياد فغفى متكورا على نفسه كالجنين يحاول بطريقة غريزية حماية نفسه من البرد. هبَّ من نومه فجأة عندما اندفع الباب بقوة. تطلع حوله ..كانت أصوات الجنود تصله من بعيد:

– بالعبرية ـ( شكيت )..هس .

يتلوها تفجر السياط في الفضاء وارتطامه الحاد بالأجساد. وصخب الأكف وهي تنزلق على الوجوه. وتفو.. وكلاب.. وزناة . كل شيء كان يدور حوله, حتى هو نفسه كان يدور, صورة أمه .. صراخ أخوته لقد قتلوا أهل القرية. .

وأصوات جرحى المجزرة. بدا مخبولاً ويداه مغلولتان وساقاه خيطان رفيعان لايقويان على حمله.. وانتابته موجة عارمة من الحقد..واخذ يشتم ويتمتم.. ثم انفجر بالبكاء وهو يتذكر عامر وهو يصرخ في طلب الماء قبل ان يسحبه الاسرائيليون. ويتذكر كيف رفع غالب مع مجموعة شبان جثة محمد العبد وساعد أبو أنيس على النهوض وقد تحول إلى كتلة دم تختلج وترتجف. كان يتذكر هزة الزغلول  لمحمد قمر الذي كان ينظر بعينين مذهولتين مذعورتين. كان لسانه مربوطاً ثم انفجر فجاة بعويل حيواني موحش, ومد قدميه ليركض لكنه انهدَّ على وجهه فتعفر بالتراب والدم, فأخذ يمسح وجهه بحركات متشنجة فيها من الخوف والدهشة والرعب الكثير. كان شباب القرية يحملون الجرحى ويضعونهم في (لاند روفر) لحدي. وهم يفكرون ماذا سيحل بهم؟ هل سيهتم الأسرائيليون بهم فعلا؟ فكيف سيحدث ذلك وهم يعلمون أن المجزرة مؤامرة إسرائيلية وأنها لم تتوقف لو لم يُقْتَل أحد الاسرائيليين المدنيين من قبل اللحديين بالخطأ, وهو يراقب تنفيذ المجزرة عن بعد؟.

كان زياد يتذكر جنود لحد وهم يطلقون النار بالفضاء. وكان هواء سحمر يومها مصاباً بالجنون كأهلها تماما. وقطع حبل أفكاره صوت طلقات جديدة. تنبئ عن تصفية احد المعتقلين.

 شارفت الساعة على الحادية عشر ليلاً، وغالب كتلة من الألم والتوجس، كان يريد أن يصل إلى الكرسي ليريح رأسه و يغفو. ولكن من أين يأتي النوم؟ و الجنود يصرخون طوال الليل ليمنعوا المعتقلين من النوم. وإذا استطاع أحد أن يغفو ، ينهال عليه جندي باللكمات ويطلب منه الوقوف. كان دواراً حاداً يسكن رأس غالب. يتعاظم مع صراخ الجنود وصوت اللكمات وسقوط أحد المعتقلين، من الإعياء عن المقعد الخشبي، وود في تلك اللحظة لو يصرخ أو يبكي، لكن كل شيء ممنوع، أحس بدمه يغلي، ثم تفجر بالصراخ. فاقتاده جندي إلى الخارج ليقضي ليلته في العراء تحت المطر والهواء البارد. وفي الصباح كان غالب قد تحوّل إلى كتلة من الصقيع، حتى الشمس التي كانت تتسلل من بين الغيوم الكثيفة، لم تجعله يشعر سوى بالحقد والقهر، واستمر يراقبها من ثقب الكيس حتى ناداه الجندي ليعود إلى الكرسي. ولم يكد يجلس حتى اقتاده الجندي إلى غرفة التحقيق.

كان المحقق يجلس خلف الطاولةً، وماأن دخل غالب حتى أشار للجندي فرفع الكيس عن رأسه، فقال المحقق وابتسامة ساخرة تطوف على شفتيه:

–  حقاً أنت طالب في الثانوية ؟

بلع غالب ريقه وقال:

– نعم .

ـ وعلمت أنك متفوق.

 – نعم .

ضرب المحقق على الطاولة، وقال بلهجة حازمة .

–  هذا هو المكان الذي تستحقون أن تكونوا فيه. وسنعطيك شهادة فلسفة في الجنون. ثم سأله بلهجة حادة:

–  كم عملية نفذتم ضدنا؟

–  لماذا شاركت في العملية ضد قوات لحد؟

ظل غالب صامتاً. فهجم عليه المحقق الثاني بقبضته وهوى بها على وجهه قائلاً: يلزمك تكسير رأس. فتدخل المحقق الأول وقال:

ـ لاتضربه . يريد أن يتكلم ..هيا قل ياغانم ولا أحد يؤذيك .

يتبع ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى