قراءة في (لا شريك للحب) للشاعرة ريم سليمان الخش

أ.د نجلاء كارم الأستاذ المشارك بكلية أصول الدين جامعة الأزهر

يقول الناقد رينيه ويليك : (إن العمل الأدبي ليس وثيقة اجتماعية أو تاريخية؛ وليس كشفا دينيا, أو تأملا فلسفيا, حتى لو أمكن أن ينظر إليه على هذا النحو من أجل أهداف معينة, إن الفن وهم وخيال والعالم يتغير فيه من خلال اللغة والصوت)

تذكرت هذه المقولة وأنا أقرأ فلسفة الحب المتداخلة في هذا الديوان, فاستكشفت معها كيف يكون الحب في هيئة صرخات تخرج من رحم الغربة؟؛ تحت سياط الحنين للوطن, وفقدان الأهل والأحباب, إن ريم الخش عبرت عن الحب من خلال منظور جديد, إنه الأمل, وعبرت عن آمال الشعوب العربية الحالمة بالمعيشة الكريمة, هذا يضاف إلى اختصاصها لبعض أحبابها, حيث اختصت الشاعرة هنا أسماءً بعينها كعناوين لقصائد الديوان, واستدعت الصور الشعرية لتؤدي وظائفًا تنبه حاسة المتلقي المتذوقة للإبداع حيث تقول في قصيدتها: قصيدة ولهى ..

يصيغ قصيدتي الولهى اشتياقي

الممزق بين غلقٍ وانعتاقِ

وقد علقت على صدري طويلا

شغوفا لا تملّ من التصاقي

تظل بصحبتي ما انساب حسيّ

ليُلبسها انفعالات اندلاقي

وقد ذاقت أصابعها حروفي

تؤرجح بين خلدي وانبثاقي

هنا ترفع الشاعرة شعار الألم حين يشاركها كتابة قصيدتها الألم, وأي اشتياق؟؛ إنه اشتياق ممزق وهنا استعارة استحيائية تعبر الشاعرة من خلالها عن مدى أساها وعذابها, تبتعد الصورة هنا عن اجتهادات الحداثيين في تصور الخيال معينا للصور الغامضة وهم يستندون في ذلك إلى ما أسماه “رامبو” (كيمياء الفعل) , أي تحرير الخيال من العقل والمادة عن طريق توظيف القيم الانفعالية والصوتية الماثلة في الحروف والتراكيب, إن الصورة في الشعر النتاج الطبيعي للتخييل, فهو مصدر الطاقة الإبداعية التي تمثل الإنسان وتعيد تشكيل جزئيات متناثرة من العقائد والأعراف والمواقف والقيم وآثار البيئة والجو النفسي,

ومن الجميل أيضا فغي قراءتي لديوان لا شريك للحب أن الشاعرة دمجت الحب بالحزن فلا يكاد قارئ الديوان أن يقرأ قصيدة من قصائده إلا ويجد دوال الحزن بارزة وملحة بشكل لافت, حيث تقول في قصيدتها

موت ولي… ..

ذبحتُ أميَ غيّا

فكيف أُبعث حيا

وكيف أحضن صوتي

وقد قطعت يديّا

صرختُ حتى تأذى

ففرَّ مني دويّا

وخرّ سمعي أعمى

فكيف أبصرُ ضيّا؟

وكيف أسكن نفسي

وقد ذبحت الثريا؟!!

هنا يتجلى الصراخ ويلبس ثوب القصيدة بمفارقة عظيمة حين تنظر الشاعرة إلى نفسها التي تسكن فيها, فترى أنها ذبحت المكانة العالية باستخدام تجسيد الثريا, فالشاعرة هنا تسكن نفسها المغتربة , وتسستخدم الاستعارة  في علوّ مكانتها التي ترى أنها لم تعد الذات القديمة…

وربما توحي دلالات الحزن في الأبيات السابقة أنها تجسد الأمور المعنوية في تشبيهات مادية تقرن الحزن بالحب, فكأنه حزن أعمى لا يتعمد أن يصيب شخصا بعينه, ونمضي مع التجسيد المعنوي من خلال التشبيهات البليغة, فنرى الحزن يصل بالإنسان إلى ما لا يطيق باستخدام الأفعال المضارعة ذبحت, أبعث, أحضن, أصرخ, أبصر, أسكن, كل هذه الأفعال المضارعة توحي باستمرار الحزن…

وفي طور جديد من أطوار الحزن نرى حزنا غامضا في أغوار نفس الشاعرة , هذا الحزن لم يندمل بعد فهو جرح لا يزال نديا باقيا ألمه الذي يقترن ألمه بالخوف من المستقبل.., حيث تقول:

إني مللت وصاياتٍ تكبلني

: تجارة الدين شِركٌ غير مرغوب

فالعقل هديي وهدي العابثين غوى

شرائع الملك ملأى بالأكاذيب

وهنا تخاف الشاعرة من أولئك الذين يلبسون ثياب الدين, ويتاجرون به, كذلك تخاف من أولئك الذين يلبسون ثياب السياسة, وهم يتاجرون بالدماء…

وهكذا نختلط بالوجه الميتافيزيقي بالوجه الاجتماعي وهو دال آخر من الدوال  الأثيرة في الديوان…

ونرجع مرة أخرى للحب في الديوان, حيث نجد الحب لأشياء جديدة مجردة مثل حب البن حيث تقول الشاعرة في حب البن:

بنٌ أفّاك!… ..

لا تلمني فحبه إشراكُ

غجريٌ وطعمه فتّاكُ

مرّ جنب الهزيع طيفا وأومى

أنْ تعالَ ..فكلنا نُساكُ

قال ذُقْ من عجائبي واختبرني

لا عليكَ!…وقد بدا الإرباكُ

لك فيها شرائع الحب سبعا

لك منها مالم يرَ الإدراكُ !!

مع أن الحب لا شريك له في ذات ريم الخش إلا أن البن المجرد حبه إشراك, فالشاعرة هنا تتحدث بذاتها البسيطة التي تقبل القليل من الحب شيئا عظيما, ولم يكن هذا الحب بسيطا في تراكيبه البلاغية كما هو بسيط في ذاتها, فهي تخاطبه بلسان عاشق حين تقول: لك فيها شرائع الحب سبعا

                                       لك منها مالم يرَ الإدراكُ

وهذا الخطاب إنما هو خطاب التجلي, والرفعة والمكانة العظيمة..

حيث توازي حب البن أنه ضرورة لازمة لحياة كل إنسان لكي يدرك مكانته..

 

وإذا كانت العقلانية هي السمة الأولى لوعيها الحداثي خصوصا في إنشائها علاقات لغوية وتوافق أبنيته , فإن السمة الملازمة لهذه العقلانية قرينة العلاقة بين الحب وآمال الشعوب فالشاعرة تجلت أيضا في هذا الديوان من خلال كتاباتها حيث كتبت لمصر وللعراق وللثورة العراقية والسودانية واللبنانية, كتبت للإنسان في كل أطواره..

وكتبت أيضا عن الغرب الذي تعيش فيه, وأقرت أن التناقض الغربي في باريس يوجعها وجيعة شديدة حيث قالت عن روما بلسانها العربي المغترب: روما وعربي مغترب…. ..

تناقضها يُعيّشني الأمرّا

وكيف لمشتهيها أنْ يفرّا ؟

هي الأنثى الشرارة في ضلوعي

لتتركها كمن للنار خرّا

وكم أضمرتُ : لو تخبو ولكنْ

تزيدُ غوايةً لأزيدَ حرّا

مهرولة إلى أحضان شمسي

ممرغة برملٍ قد تعرى

محرضة هجوم الموج مدّا

لينفذ عمق ماترجوه غمرا

لينحتَ في تضاريسٍ تراءت

كمرجانٍ على شطي استقرا

تُبللني بعشقٍ مستميتٍ

أعاينه اقتحاما ثمّ جذرا

كان وطرا !!

وهنا تتحدث الشاعرة عن العربي الذي أكلت منه الغربة ملامحه, وبحثت عن حقه المهدور في وطنه وخارج وطنه..

وأيضا من الجمال الذي ضفرته شاعرتنا هنا بالعذابات  تعلقها بآمال الشعوب العربية حين قالت للعراق في قصيدتها يا عراق:

فيك فاضت حضارة الحب نهرا

شطه الجود والنخيل رفاق

منك عُلمتُ منطق الطير شدوا

كي أغني ويرقص الإشراق

هنا تتحدث الشاعرة بلسانها العاشق عن العراق في أبهى صوره التي تتمنى أن يدوم عليها وعن حضارته العريقة وتختم قصيدتها بعد ذلك بالحرية المنتظرة لهذا الشعب العظيم حين قالت:

إنّك الحرّ لا أحب الموالي

ثورة الضوء مهدنا التوّاق….

حيث أكدت على حرية هذا البلد من خلال استخدامها للحرف الناسخ إنّ, والضمير الكاف وهذا يدل على عظمة العراق وحريته الخالدة مهما حاول المستعمرون أن يضيعوا ويبددوا حريته…

وأخيرا أحب أن أقول: إنني استمتعت جدا بهذا الديوان, فلقد قرأته عشرات المرات وكنت مندهشة جدا من اختصاص الشاعرة لبعض أصدقائها وأحبابها, وأكثر ما أدهشني كيف يقترن الحزن بالحب, مفارقة عظيمة صنعتها ريم الخش الشاعرة المتفردة بإبداعها الخالد

 

 

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى