هل ستبكي عليَّ يا صديقي؟

د. عبد الكريم محمد الروضي | ماليزيا – كولالمبور

الحمد لله رب العالمين الذي كتب الموت والحياة على بني الإنسان ليبلوهم أيهم أحسن عملا ، وجعل الموت سنةً باقيةً في هذه الحياة و قانوناً فتاكاً، الموت ذلك الأمر العجيب الذي نعلمه جميعاً ونعرفه حق المعرفة،  الموت تلك الكلمة المرعبة التي تقشعر لهولها الأبدان، كلمة مكونة من ثلاثة أحرفٍ “موت” لكنها ثلاثة أحرفٍ تثير الرعب في قلوب العباد. الموت ما ذكر عند جليلٍ إلا وحقره، وما قورن بعظيمٍ إلا وأذله، قال تعالى ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) ثلاثة أحرف يحفظها الصغير والكبير ولكننا نفقد معانيها وتأثيراتها ونفقد أهميتها وأثرها في حياتنا، الموت الذي نسمع عنه في كل يوم وفي كل وقت لا يمرُّ علينا وقت إلا ونسمع عن موت حبيب أو عزيز أو نعزي صديقاً في موت أحد له. الموت ذلك الكأس الذي نشربه فنعرف بعدها طعم الفقد لحبيب أو عزيز لن نجتمع معه بعد ذلك، فتنتهي معه كل علائق الدنيا لتبقى الأخوّة الصادقة كما قال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) كم مرت علينا أيام عصيبة ودعنا فيها كثير من الأصدقاء والأحباب والزملاء، وكنا نبكي بدل الدموع دماً على فراقهم، ونحزن أياماً لفقدهم، ونتأثر على رحيلهم، ولكننا اليوم نشاهد مشاهد أخرى عن التأثر بالموت، نشاهد أفراداً تغيرت قلوبهم تجاه إخوانهم وتجاه أصدقائهم صارت كالحجارة أو أشد قسوة، أصبح الواحد منهم لا يتأثر لموت صديقه، أو عزيز عليه، وأصبحت القلوب فيها من الأحقاد تجاه بعضنا البعض ما الله به عليهم ، فنجد أسرة في بيت واحد وفي غرف متقاربة لكنهم أبعد ما يكون عن بعضهم قلوباً ومحبة ، و آخرون في عمل واحدٍ وفي منظمة واحدة لكنهم أبعد ما يكون عن الحب والتقدير والأخوّة والتراحم، وآخرون يتقاتلون على حطام الدنيا ويقتل بعضهم بعضاً بحجج واهيةٍ وإلى الله المشتكى، رأينا أفراداً مات لهم أشخاص لكنهم لم تعد لهم قلوباً ترحم أو تبكي أو تحزن، تلك الفطرة البشرية التي أودعها الله في قلوب العباد خفَّت وضاعت إلا من بعض قلوب البشر تلك الفطرة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم عندما مات ابنه ابراهيم وقد دمعت عينه وبكى صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عند الإمام البخاري (أن رسول الله ﷺ دخل على ابنه إبراهيم رضي الله عنه وهو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله ﷺ تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله فقال : “يا ابن عوف إنها رحمة” ثم أتبعها بأخرى فقال: “إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون” ) ما بالنا اليوم نجد من يفرح بموت أخيه وصديقه ولا يحزن لفقده ولا يبكي لموته إلا من رحم الله، إنه انتشار الحسد والحقد والتباغض بين الناس على متاع الدنيا الزائل وضعف اليقين أننا زائلون وميتون عما قريب أدى بنا إلى هذا فإلى الله المشتكى .

 فتراحموا فيما بينكم أحبوا بعضكم واتركوا كل حسد وتباغض وحقد على أسباب الدنيا التافهة الحقيرة التي لا تسمن ولا تغني من جوعٍ في يوم تدخل قبرك وحيداً وتقف في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: “لا تَحاسدُوا، وَلا تناجشُوا، وَلا تَباغَضُوا، وَلا تَدابرُوا، وَلا يبِعْ بعْضُكُمْ عَلَى بيْعِ بعْضٍ، وكُونُوا عِبادَ اللَّه إِخْوانًا، المُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِم: لا يَظلِمُه، وَلا يَحْقِرُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، التَّقْوَى هَاهُنا ويُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مرَّاتٍ بِحسْبِ امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِر أَخاهُ المُسْلمَ، كُلّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حرامٌ: دمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ” رواه مسلم. إننا اليوم لم نعد بحاجة فقط إلى تعزية أنفسنا و إخواننا بمن مات عليه عزيز أو صديق أو حميم إننا بحاجة إلى تعزية أنفسنا جميعاً بموت الأخلاق الحميدة والقلوب الطيبة التي تنبعث منها المحبة و الرحمة والمودة والصدق والتناصح والرجولة عند كثير من الناس إلا من رحم ربي .

 ومع كمية الأسى إلى ماصرنا إليه إلا أنه لاتزال هناك عناصر مشرقة ومشرّفة في أولئك الإخوة الذين يرسمون أروع صفحات التاريخ في صدق أخوتهم وصداقتهم وحزنهم وبكائهم على من مات عليهم من عزيز أو حبيب أو قريب لهم فنجد من يقضي الدين عن الميت ويسارع في ذلك…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى