قراءة نقدية في ديوان “فأنبتنا به حبًّا” للشاعر “علي مصري الأزهري”

د. ميسم الجلّود الشمري | سورية

“فأنبتنا به حبًّا” ديوان شعر يحتفل شاعره “علي مصري الأزهري” بولادته طباعيًّا وإصداره ورقيّا، ليغدو هذا الديوان ميراث القراءة للقراء والنقاد.

وأول قطافنا نأخذه من العنوان “فأنبتنا به حبًّا” ليجعل الشاعر الحبَّ مادة تنبت وتنمو، إلّا أن هذا النبت ليس على الإطلاق بل نبت مقيد مرتبط بـ “به”، لتأخذ القراءة مسارها للبحث والكشف عمّن ذا الذي أنبت به الحبّ؟ أو ربما ما الذي أنبت به؟

ويبدأ الشاعر ديوانه بإهداء غير ذي عهد، فالإهداء إلى الأم التي كانت الداعم الأول له، لا ننكر عليه حسن برّه، إلا أنه كان من الأحسن ألّا يتقاسم الإهداء معها أحد، وربما سوّغ “علي الأزهري” المقاسمة من باب الاعتراف بالفضل والعرفان لأساتذته، ومن باب الامتنان إلى قراء ديوانه، وتبقى الأم والأمومة في المقام الأول وفي الحضور الأسمى.

وقد استطاع الشاعر أن يمتلك بديوانه ثمّ يعرض بنصوصه قيم الشعر الثلاث الحق والخير والجمال، وقد جمع فيه الشاعر مفاصل أيامه وأفكاره جمعًا رقيقًا وكأنّه ما أراد أن يكسر بخاطر قصيدة له، فيستبعدها من ديوانه، أو يؤجلها إلى ديوان آتٍ، إذ إن المزج بين الغرضين الرئيسين “الحب” و “الدين” في ديوان واحد، كان مزجًا بحدي سيف مزاج القراءة، لا سيما أن الأدب يُكتب في المقام الأول لغرض أناني ذاتي عند الأديب، لكنه لا بد أنّه يُكتب لجمهور القراء، والجمهور لا يحدّه ثقافة دينية أو فكرية واحدة، ولو أن “علي الأزهري” فرد للغرض الديني ديوانًا مستقلًا لكان الأمر مسَوغَا أكثر، من هذا المزج، أو أنه عرض الغرض الديني في ديوانه دون هذه الغلبة في الهيمنة على موضوعات النصوص، فللحبّ أبوابه وقراؤه، وللدين أبوابه وقراؤه أيضًا.

وعند قراءتنا الديوان نلحظ بكل وضوح كوضوح عين الشمس كيف أنّ الكلمة عند “علي الأزهري” تتكئ على الموروث الديني، وكيف أنها تأتي موّظفة دون نفور أو اقحام، بل تتهادى في النص كما يليق لها القبول والأنس الفني.

ولأن الكلمة هي أداة الصورة واللبنة الأساس لها، كذلك تأتي صوره في لبوس ذي موروث ديني، فلا يحيد ولا يبتعد عن ثقافته التي نهل منها واستزاد، هذه الثقافة الدينية التي أكسبته صبغة لغوية واضحة الصوت دون مواربة، كقوله متغزلا بحسن جمال المحبوب:

يوسفي الحسن شيمته

أبدع الباري لما خلقا

وهذا الاتكاء في الصورة اتكاء مألوف في النفس محبب، ألا وإن أكثر الشعراءُ في تشبيه حسن أحبابهم بحسن يوسف، فإن آلية الصوغ الفني وعرض الصورة هو الفصل في جودة الاتكاء من عدمه.

وتأتي الصورة أكثر طربًا في حديثه عن بلده مصر الحبيبة، وأكثر زهوًا في إعادة صوغ المفردة الدينية، إذ نادى بلده بالكعبة وجعل نيله كوثر محبيه وعشاقه، ويتماهى القول مع الشعور فللوطن قداسة لا تخبو جذوتها في عين أبنائه، بل يتساوى الفخر بالوطن مع الفخر بالانتماء الديني، وهنا يعلو صوت شاعرنا مجاهرًا بحبه لوطنه وتقديسه له، كيف لا وهو يجعله كعبة الحسن، فيقول:

يا كعبة الحسن يا فخري ويا بلدي

يسعى بحبّ لها من يألف الحرما

أرض الكنانة فيها النيل كوثرنا

إن ذاق منه سقيم يُبرئ السقما

أما اللبوس التراثي، فشاعرنا “الأزهري” ينفض عنه غبار القِدم ويعرضه تحفة فنيّة، كقوله متباهيا بشعره وحبّه:

لا لست بشارًا يثير كوامنا

لعاشقين فكل قول يُكتب

هذا أنا متفرد بقصائدي

إن أخفقت فعلى لظًى أتقلب

ليطرق ذاكرة القارئ ومخزونه المعرفي والثقافي، ويستنهض في ذهنه المقارنة عن طريق عزف “علي الأزهري” على المتناقضات بنفيه أن يكون عشقه كعشق بشار، فيقدم للقارئ مادة شعرية ورؤية خاصة به عن خصوصية العشق عند بشار بن برد. ويتنقل الشاعر في ديوانه مختارًا التنويع في موضوعاته، وأول القصيد يفتح به بوابة ديوانه، قصيد الغزل في نص “العيون”

نظرتُ إلى عيون ناعسات

فأيقظن الهوى بعد السبات

وزرقة لونها أحيت فؤادي

وقد كان المهدد بالممات

ومما يتميز به الغزل عند شاعرنا أنه غزل عفيف لا يخدش مرآة الحياء، هذا وقد يتناول الغزل بمعرض العتب للمحبوب الذي جفاه وما أنصفه بحلو اللقاء.

ظالم في حبّه ما أنصفا

يا حبيبي أنت ينبوع الجفا

حبذا وصلًا بأيام هَنا

لوعة بي واشتياق عصفا

إلّا أنّ الغزل لم يكن البوابة الأوسع في ديوانه، بل في حقيقة الأمر كان الغرض الديني هو الغرض المهيمن على صفحات الديوان، فأفرد للمدح النبوي الشريف أكثر من قصيدة، وكذلك تغنى في شهر رمضان المباركة في خصوصية فريضة الصيام وفضلها في هذا الشهر الفضيل. ويقول “علي” في مدح النبي محمّد عليه أفضل الصلاة وأتمّ السلام:

طابت ليالينا بذكر محمّد

وتعطرّت بالنظم والإتقان

يا سيدي أهديك بعض مدائحي

أسمو بها عن قسوة الأحزان

ومصر البلد الولادة للخير والسلام ولادة لشعراء يدلون بدلاء محبتهم في القضايا الوطنية والقومية، وشاعرنا “علي الأزهري” كثيرًا ما روّى شعره بحب الوطن مصر الحبيبة وحبّ البلاد الشقيقة، لا سيما الشقيقة الأعمق جرحًا والأكثر نزفًا فلسطين العروبة، فربت بشعره على كتف وجعها وطمأنها وبشرها بالنصر الآتي لا محال.

كما لم يغب عن الشاعر نفح عطره في القضايا الاجتماعية، فيضوع عطره ناصحًا راشدًا، في مواضيع حياتية يومية وأخلاق الناس فيها من حسن تربية الأبناء وعدم الحقد وغيرها. فيقول في نبذ الحقد والدعوة إلى القناعة بما قسمه الله تعالى للإنسان من حال وأحوال:

يا زارع الحقد إصرارًا مع الحسد

اقنع بحالك لا تنظر إلى أحد

“فأنبتنا به حبًّا” ديوان أنيق الصوغ والعبارة، حسن اللفظ والصورة، يقدم به الشاعر بشارة الخير بشاعر يمتلك الأدوات الفنية والمعرفية، كما يمتلك المخزون اللغوي والثقافي، الذي يسهم في بلورة فكرته وعرضها لوحة شعرية متألقة الحرف والإيقاع.

نرجو للشاعر التوفيق وأن يكون هذا الديوان فاتحة أدبية لخير وزاد شعري لا ينضب، وتتوالى دواوينه بعطر الجمال والتفرد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى