” مناجيات شكسبير ” خلجات ٌ نفسية محكمة البناء
عبد الرزّاق الربيعي | شاعر ومسرحيّ وكاتب صحفيّ
المناجاة هي التعبير عن مكنونات النفس البشريّة مما في داخلها من مشاعر، وفي قواميس اللغة (ناجَى فلانًا) أي سارّه بما في قلبه من أسرار، وفي القرآن الكريم ” إِذَا تَنَاجَيتمْ فلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالعُدْوَانِ” المجادلة آية 9، وتناجى القوم: تساروا، أي إطلع بعضهم بعضهم الآخر على عواطفهم، وأسرارهم، وفي مرثية الجواهري لزوجته “أم فرات” التي مطلعها:
في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ
أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ
يقول :
ناجيتُ قَبرَكِ استوحي غياهِبَهُ
عن ْحالِ ضيفٍ عليهُ مُعجَلا يفد
وردَّدَتْ قفرةٌ في القلبِ قاحِلةٌ
صَدى الذي يَبتغي وِرْداً فلا يجِد
أما في العروض المسرحية فالمناجاة “خُطبة تلقيها إحدى شخصيّات المسرحيّة بصوت يسمعه المشاهدون، الغرض منها التَّعبير عن أعمق مشاعر الشَّخصيّة، وأفكارها الدَّفينة”، وتكون بعقد حوار مع شخص يتخيّل وجوده المتحدث، وقد شاعت المناجيات في العصر الإليزابيثي عموماً، ومناجيات شكسبير خصوصًا “كما جاء على الغلاف الأخير من كتاب “من مناجيات شكسبير” للدكتور صلاح نيازي الصادر عن دار المدى، وهي كما يقول الناشر على الغلاف الأخير ” نوع فريد في التأليف المسرحي، وحيلة أدبية بارعة لاستقطار أدقّ العواطف. يرى النقاد المتخصصون أنها من أعمق الخلجات النفسية وأحكمها بناء”، وهذا مردّه إلى ” طبيعة المناجاة ذاتها، إذْ ينفرد البطل (في معظم الحالات) بنفسه على خشبة المسرح. يروي خلجاته بصوت مسموع لا لأحد. لنفسه فقط. لا يكتم شيئاً لأنْ ما من أحد يسمعه”، ولهذا، فهو يستنتج أنها تكون صادقة كلّ الصدق.
ويبدو أن نيازي، وهو شاعر عراقي يقيم منذ 1963 في بريطانيا، تنبّه إلى أنّ الأدباء العرب لم يتوقّفوا عند مناجيات شكسبير التي رأى فيها قيمة شعرية عالية ، ومن بينها مناجاة هاملت التي أصبحتْ جزءاً أكيداً من اللغة الإنكليزية، بل ومن الثقافة الإنكليزية، ومن الحياة اليومية في المجتمع الإنكليزي، كما يقول، فمناجاة هاملت الشهيرة ” أكون أمْ لا أكون، هذه هي المسألة أيّهما الأنبل في العقل: أن يتحمّل قوسَ ونشابّ ربّة الحظ الطائشة أو يجرّد السلاحَ بوجه بحرٍ من المصايب وفي كليهما موت يريحه من متاعبه أن نموت- أن ننام، لا أكثر من ذلك وبالنوم ننهي وجع القلب تلك نهاية نتمناها بخشوع أن نموت، أن ننام أن ننام، ربما أن نحلم… “جرت على كلّ لسان، وبخاصّة الجملة الأولى “أكون أم لا أكون، هذه هي المسألة ” التي خرجت من النص الشكسبيري، لتجري على ألسنة الناس، وكذلك جرى توظيفها في الآداب العالميّة.
وفي هذا الكتاب يستلّ من مسرحية (هاملت) سبع مناجيات، يصفها بأنها” من لباب الشعر، ومن أروع ما أتت به ملكة شعرية في صناعة القول…وكل مناجاة هي مختبر لتحليل الإنسان الى عناصره الأولية، فهاملت قبل المناجاة يعلم عن طريق الشبح أن عمه قتل الملك، واغتصب عرشه بمساعدة الملكة والدته التي تزوّجها ” قبل أن يعتق حذاؤها الذي مشت به وراء جثمان أبي المسكين.. وقبل أن تزول الدموع الملحية الزائفة من عينيها المحمرتين “ويختم مناجاته بقوله” الصمت يكسر القلب ولكن عليّ أن أمسك لساني” ومن (الليدي ماكبث) يستلّ مناجتين، ومن (مكبث) اثنتين أيضا:
أيتها الملائكة الرحيمة
الجمي في الاحلام الشريرة التي تطلقها الحياة أثناء الهجوع
اعطني سيفي
الليدي ماكبث: تعال أيها الليل البهيم
ولفع نفسك بأعتم دخان في الجحيم
حتى لا ترى سكينتي الحادة الجرح
الذي تصنع أو تبرق روح خيرة في السماء من خلال حجاب الظلام”، وبعد أن يستلّ مناجاة من النص، يضعها تحت مجهره النقدي، محللا، وفاحصا، فيقوم بتحليل كل مناجاة، تحليلا دقيقا، ملقيا الضوء على السياق الذي وردت به في النص المسرحي، وهذا لم يفعله سواه من الأدباء العرب الذين لم يلتفتوا لهذا الجانب.
وقد بذل جهدا مضاعفا لمقارنة هذه المناجيات بالمخطوطات الأصلية، ففي الصفحة 81 يرى أن مقطعا من مسرحية (هاملت) يبدو مرتبكا، وهذا المقطع هو:
“العظمة الحقيقية لا تعني الاندفاع إلى العمل
لأيّة قضية تافهة، ولكنّ العظمة أن تصطرع
من أجل قشّة إذا بات الرهان على الشرف”
ويتتبّع جهود النقاد الذين اجتهدوا في إصلاحه، ولكنه، كما يقول” بقي عصيّا ومستغلقا”، ويسوق هنا رأيا للناقد هارولد جيكينز الذي يقول إنّ ” لا وجود للعظمة في الامتناع عن القيام بعمل ما لأن الدوافع غير كافية، وقد تكون هناك فضيلة في الامتناع، وهذا شيء لا ينكر ولكن أية فضيلة كهذه ليست عظمة بالتأكيد” ومع ذلك يقول” يبقى النص غامضا لسقوط بعض الكلمات من النص الأصلي في الأغلب “
وفي الليدي مكبث يقول “إن شكسبير يهيئ قرّاءه ومشاهديه على عدة مستويات لفهم مناجياته، فإن ما يقال في مشهد واحد يكمل ما يقال في مشهد آخر، ويربطه به، لذا من الصعب فحص أيّ مقطع على حدة دون فقدان التداعيات التي هي ضرورية للفهم التام ” ويقول أيضا” يخلق شكسبير قبل كل مناجاة سلسلة من التوقعات، والانطباعات المتناقضة حاشدا أسئلة في أذهان القراء أو النظارة”
وقد يجد النقاد في بعض المناجيات ما لم يجده في شعر شكسبير كله، فالناقد جي. بي. هارسون يرى أن “مناجاة الليدي مكبث الثانية تعدل في جودتها جودة كل الصور الشكسبيرية المعقدة المروعة الغامرة”، هذه المناجيات قد يراها البعض استرسالا شعريّا، لشاعر توغّل في النفس البشرية، وغاص في أعماقها، وربّما حاول بعض المخرجين الاستغناء عنها، لاعتقادهم أنّها فائضة عن الفعل الدرامي، وهؤلاء رأوا فيها “حيلة أدبية لاستقطار أدقّ العواطف”، وهذا النظرة فيها تعسّف كبير عليها، فالمناجيات تشكّل عنصرا فاعلا في نموّه، وقد عزّزها بعض المخرجين التجريبيين، بمشاهد بصريّة، وأخرى سمعيّة، كما رأينا في قراءات المخرج الدكتور صلاح القصب لأعمال شكسبير الخالدة مسرح الصورة، عندما خرج من متحفيّة النص الشكسبيري كما شاهدنا في مسرحيّة “الملك لير” التي قدّمها ببغداد منتصف الثمانينيات، وأدّى دور الملك لير الرائد سامي عبدالحميد، وفي” ماكبث في بحيرة الدم” التي قدّمها في الدوحة 2002 وأسند دور( الليدي ماكبث) للفنّانة العمانيّة فخريّة خميس، وفي كل تلك القراءات رأى القصب وسواه من التجريبيين مناجيات شكسبير جزءا لا يتجزّأ من المناخ العام للنص الشكسبيري، لأنّه من خلالها استبطن الذات الإنسانيّة بكل غموضها، وتعقيداتها، ولهذا احتاجت إلى تحليل نقدي عميق كما فعل الدكتور صلاح نيازي في كتابه الذي يشكّل إضافة للمكتبة العربيّة.