قراءة في مجموعة الفلسطينية شروق دغمش (قُتِلتُ في مثل هذا الوقت)
وليدة محمد عنتابي | سوريا
السرد المشير والاقتصاد اللغوي
وصلتني مجموعتها إلكترونيا مشفوعة بغلاف يشي ولا ينبي، محفوفا بسواد الحال وبؤس المآل، والتي صدر حديثا عن دار طريق للنشر والتوزيع وهي المجموعة القصصية الأولى لها تحت عنوان: قتلت في مثل هذا الوقت.
من خلال لغة امتازت بالسلاسة والانسياب الهادئ الرصين، وتقنية سردية ذكية اعتمدت الاقتصاد اللغوي الذي هو بحق أهم مايميز القصة القصيرة في عالم السرديات، متخذة من وقائع يومية عايشتها، منطلقا لتوثيق بلاغي بفنية تحسب لها في منتجها الأول على صعيد المنجز الإبداعي.
انتظمت لوحاتها القصصية روح واحدة أتشحت بالحزن واللوعة متوجة بالنهاية المفتوحة على بطلان هذا العالم المكتظ بالخيبات والمترع بالآلام والنكبات.
إنها وهي ابنة فلسطين المفجوعة في أرضها، لا تكف عن تذكيرنا في كل قصة من مجموعتها تلك بتجسيد الظلم وتفشي القهر والاستلاب.
ندلف من العنوان وهو العتبة الأولى التي ننتقل من خلالها إلى تلك الغرف الجوانية الغارقة في ظلام واقع مفروض بكل وحشيته وغرابته ، ليحرك في مشاعرنا آلاما وشجونا ؛ موقظا لواعج الفقد والغياب .
في لوحتها الأولى(بصوت خافت) ترتجف ربشتها المغمسة بدمع القلب والمشحونة بشجون الروح وعذابات النضج. حيث وهي تمتطي صهوة رصدها لمعاناة شاب عاطل عن كل شيء يقارع الفراغ بالبطالة المميتة: حيث يحاول أحدهم اقتناصه بالدراهم؛غير أنه يخرج من معضلته بإنهاء حياته. بينما يرخم خذلان مميت في لوحتها (جبل الثلج )، وقد ضرب الصوت عرض الصدى.
ترتسم ببراعة فنان تشكيلي لوحاتها (ظلت رائحتك) على جدران ذاكرة الحواس مشفوعة بأنين الروح ونزيف القلب ، وقد صدق حدسها وتحققت تنبوءاتها وبات الفقد منها قاب دمعة وغصة.
وفي لوحة ( وجدت جثتي ) تدخلنا الكاتبة في تجربة مابعد الموت مباشرة؛ وقد أطلقت روحها من أسر الهنا والآن، متجاوزة أبعاد المدرك والمغيب عن دائرة الحواس، ومن لوحة (بين يديها وسادة) تنطلق هواجسها المدماة من غرفة في مشفى، حيث عانقت فجيعتها فيه وقد توقف زمن أبله في لهاتها غصة حارقة.
وحين خذلها اهتمام المحبوب في لوحة (عقدت حاجبيها)، عرفت الفرق بين ما قرأت عن الحب وبين معايشتها لوقائعه المشبعة بالمفارقة والنكران. وبينما هم غارقون في توافههم اليومية توحي لوحتها (يثرثرون)… بكل ما يمكنها رصده لمشهد عزاء، حيث الجميع غارق في مشاكله وهمومه اليومية بعيدا عن أجواء الحزن والفقد .ما جدوى أن نسرق أشياء من نحب بعد رحيلهم ؟ أهو الاحتفاظ بأثر منهم وهم موشومون على جدران الذاكرة ؟!
يالروعة المفارقة حين لاتقوى حواسنا ومداركنا على استيعاب الصدمة فنخرج عن دائرة وعينا إلى غياب أليم في لوحة (عدس) حيث يصدم العائد من الرحيل إلى حضن أبويه بموت أحدهما ومرض الآخر فيخرج عقله عن السيطرة.
إنها الحياة قناصة العوز نهازة الفرص تتصدر في لوحة (بين يديها الخشنتين) بكل جلافتها وجورها لتعتصر أرواحنا وتمتص ماء حياتنا من أجسادنا فنقف مع الكاتبة في معاناتها أمام المرآة نرقب برعب ما آل إليه حالنا.
وقد حاولت الكاتبة ببراعة أن تزج بنا معها في تجربة كسر المرآة وتشظيها لنقطر من مساماتها يأسا سوداويا ، غير أنها افتعلت معاوضة مجزية حين خلفت وراء موتها حياة متمثلة بروايتها الأولى وكأنها اكتفت من الحياة بها.
هل للكره وجه آخر يدعى الحب ؟! في لوحتها ( اصطدمت بخيبتي) تقف الكاتبة على رؤوس انتظارها تتأمل بنزق تأخره عن القدوم غير أن سفن المحبين تسير عكس الريح أحيانا لتزجنا في أتون معاناتهم مصطدمين بالخيبة تلو الخيبة.
(كحبتي فراولة) لوحة ترصد مشهد العروس في استكمال زينتها بانتظار قدوم العريس، غير أن ما كان بالحسبان لم يطابق الميزان، في اللحظة الحاسمة لقدوم العريس يتناهى خبر وفاته في حادث انهيار نفق عليه.
(لم يحمها أحد) بنفس بديع مستغرق في الفكاهة والمرح ترسم الكاتبة لوحتها هذه بحركة وبراعة ، فقضية تسونامي أخذها الناس على محمل المرح والابتهالات غير مدركين لخطورة أن يغرق البحر اليابسة. هذه المدينة التي لم يحمها أحد استسلمت لأمواج البحر باسترخاء وترحيب ولم يحمها أحد ولعل في ذلك منجاة لها.
(يداي الباردتان) تتسلل روحها المترعة بالخيبات والانتظارات والمحاولات الفاشلة للتأقلم مع وضع مغاير لمشاعرها، ترسم لنا الكاتبة مشاهد معاناتها العاطفية، وقد بذلت ما في وسعها دون جدوى.
في لوحة (يحوم في الليل) تتبدى لنا مأساة عدم التحمل لواقع أليم ، حين تنقلب بنا من العقل إلى الجنون . أهو الجبن عن المواجهة والتحمل ذلك الذي يدفع بنا إلى الجنون .؟!
(قتلت في مثل هذا الوقت) لوحة برسم المفارقة وعنوان لافت موشوم على جدار التأمل. بروح غرائبية ترصد تجربة وعي خارج عن المألوف تشرخ الكاتبة أفق التوقع لتتساقط منه أمطار الدهشة.
تتوالى اللوحات الممتعة والمثيرة للتعجب (ولا يده ترفعني) ، (كأن الموت إليه) ، (لكنني أنظر للوراء)، (رغم يقيني)، (حتى أكلها المنعطف) ، (كأنها مراسم عزاء)، (لم يسمعها أحد)، (لم يرحمنا أحد) ، (كل شيء يبقيه) ، (يعض يده)، (بشهقة طويلة)، لتشكل دلالات غاية في الثراء تتكشف تباعا للقارئ، موقظة فيه ما غفا من معاناة وأحداث، محققة المتعة الأدبية بأسلوب رشيق ولغة هيفاء.
وفي الأخير أقول: مع التمنيات الطيبة للكاتبة الشابة باجتياز تجربتها القصصية الأولى إلى منجزات واعدة بالمزيد من العطاء والتميز.