ثقوب في الثوب الأسود العقاري الكنسي الكاثوليكي!
المحامي إبراهيم شعبان | فلسطين – القدس
في خضم أحداث جسام مرت على المنطقة، برز على الساحة الفلسطينية، حدث هام يتعلق بعقارات الكنيسة اللاتينية الكاثوليكية، ولكنه في زحمة الأحداث الجارية سرعان ما توارى، ولكنه بقي حقيقة واقعة رغم اختفائه عن مسرح الأحداث ظاهريا. فالجمهور الفلسطيني المضروب على رأسه من جهات عدة، والمكتظة أجندته بقضية الكورونا ومشتقاتها وذهابها وعودتها، وبلعنة الضم وآثاره، ولقمة االعيش والإقتصاد والراتب، جاءت نية بيع مئات الدونمات في منطقة الناصرة، من قبل الكنيسة الكاثوليكية، ضربة موجعة للأماني الوطنية للشعب الفلسطيني المكافح المناضل.
وكانت حجة دير اللاتين في الشروع في عملية البيع، أن الجامعة الأمريكية التي أنشاها الدير في مادبا بالأردن وباشرت عملها سنة 2011 ( يبدو على نمط جامعة بيت لحم )، تعاني من أزمة مالية طاحنة نتيجة سوء إدارة تشغيلية في الجامعة. وأشارت تقارير لا يعرف مدى صحتها ودقتها إلى فساد وسمسرة وأمور مشبوهة أدت إلى هذا الدين الهائل. فالتقارير تقرر أن الجامعة مدينة لبنك سويسري بمقدار مائة مليون دولار أمريكي. ونتيجة لفشل جميع محاولات سداد الدين وجدولته، عين البابا المطران بيير باتيستا بيتسابالا الإيطالي ليتولى هذا الأمر الذي حل محل البطريرك فؤاد طوال المولود في مادبا بالأردن والذي بدوره حل محل البطريك ميشيل الصباح عام 2008 .
عقب ظهور أنباء مشروع بيع ثلاث مائة دونم في منطقة الناصرة من قبل الكنيسة الكاثوليكية، وموجة الغضب التي سرت في الشارع الفلسطيني، والإحتجاجات التي ملأت وسائل التواصل الإجتماعي، وتذمر الكثيرين من تسرب هذه الأراضي، اضطرت الكنيسة لنشر بيان تخفف فيه من وقع الأحداث لتعلن أنها ستبيع الأرض لعربي، وأنها عينت لجنة لمحاولة إيجاد حل جذري لقضية ديون جامعة مادبا الهائلة. ولحد الآن وفي حدود المنشور جمد الوضع.
ويبدو أن المقولة التي كان يرددها البعض أن الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية لم ولن تفرط بعقارات الفلسطينيين المسيحيين الكاثوليك كما فرطت غيرها من الكنائس، غدا محل شك كبير بغض النظر عن الأسباب. فها نحن نرى أن أزمة مالية لجامعة أردنية ولا أود التقليل من حجمها، غدت سببا لبيع مئات الدونمات الفلسطينية المسيحية الكاثوليكية بدل التفكير بوسائل بديلة أخرى للفاتيكان. وليس في مقدور المرء تقدير القدرة المالية للفاتيكان، ولكن العقل السليم يقرر ان الفاتيكان مليء ولا يعوقه تدبير مائة مليون دولار لتسديد ديون جامعة مادبا .
هناك فكرة خاطئة ومضللة تقع فيها الكنائس جميعا سواء بحسن نية أو سوء نية، مفادها أن هذه الأراضي أو المباني هي أراضٍ ومبانٍ كنسية وتملكها الكنيسة جوهراً وشكلاً. وهذا غير صحيح البتة، فهذه اراضي الشعب الفلسطيني المسيحي وأبنيته تبعاً لطائفته ولمصلحتها ونفعها وخيرها. بكلام آخر الكنيسة الكاثوليكية وإن كانت شكلا تملك أرضاً أو بناءً ما وتتصرف بها وتسجل في دائرة الأراضي على اسمها، لكون من الإستحالة أن تسجل أرضا أو بناءً ما على اسم الطائفة الفلانية أو العلانية لعدم وجود شخصية قانونية لهذه الطائفة، لذا تسجل على اسم الكنيسة التي تتمتع بالشخصية المعنوية. لكن العقار والأرض والبناء حقيقة وجوهرا عقارٌ للطائفة اللاتينية الكاثوليكية المسيحية الفلسطينية حصراً، ويجب أن يخصص لمنفعة الطائفة واستعمالها وتصرفها حكرا وأن يرصد لذلك. فنحن لسنا أمام صورة نقية للحق الخاص والملكية الخاصة بل هي ملكية منوطة ومقيدة لمصلحة الطائفة والملة.
في ظل ذلك التخصيص والتحكير لابناء الطائفة أيا كان اسمها، وفي ظل القضم الإسرائيلي للأرض الفلسطينية بوسائل متعددة بغض النظر عن دين وملة وطائفة الفلسطيني، تبقى مثل هذه الأراضي لتكون أملا يتعلق به الفلسطيني ليحل به ضائقته السكنية التي أورثت أجيالاً من المعاناة الإسكانية . فيكفينا ما ضاع منها تحت ذرائع وحجج وحيل، ويكفينا ما تسرب منها تحت مقولات مختلفة، ويكفينا ما أجر منها لفترات طويلة كغطاء قانوني لتسع وتسعين سنة وكأنها لم يتم بيعها أو إخلاؤها. فما فائدة القول أن رقبة العقار هو للكنيسة، بينما العقار مؤجر لجهاز إسرائيلي وينتفع به لتسع وتسعين سنة، وهذا الجهاز خلق ليضرب أماني الشعب الفلسطيني. سأضرب مثالا واحدا وهو أرض الكنيست الإسرائيلي المقام على أرض وقفية مسيحية، وإن رغبتم بأمثلة أخرى فارجعوا للأرشيف. فحجم هذا المقال لن يكفي لذكر الأراضي الكنسية التي تم التصرف بها لصالح اشخاص محددين.
أما أن تقول الكنيسة أن هناك مشتريا عربيا وتعزف على هذه المقولة العاطفية المداعبة للقلوب، وكأن فيها ضمان كاف، لهو امر مضلل ونافٍ لعدم مشروعية الصفقة والبيع أساساً . وبغض النظر عن اسم المشتري وهويته الذي اجهله جهلا تاما، والبائع بيير باتيستا بيتسالا الذي أجهل نوازعه التي قد تكون خيرة تماما، فهذا لا يشكل ضمانا كافيا لعدم تسرب ثلاث مائة دونم من الأرض. وأي شخص بسيط يعرف ويدرك الحيل القانونية العديدة التي يمكن أن تشوب صفقة البيع هذه إن تمت. ولنا في عمليات البيوع وغيرها التي تمت في القدس وما زالت تناقشها المحاكم الصهيونية وما زلنا نلعق جراحنا بعدها وهي خير درس وعظة.
يجب أن تكون فلسطينيا قلبا وقالبا، وتحيا في فلسطين بكل جوارحك، وتعيش الحالة الفلسطينية ومعاناتها بكل صورها، حتى تقدر وتثمن العقار في فلسطين. فغير الفلسطيني مهما كان مناصرا للقضية الفلسطينية ومهما كانت جنسيته لن يجتاحه هذا الشعور من الفلسطنة التي ترفض التخلي عن العقار في فلسطين ولن يدرك العواقب المترتبة على التخلي عن العقار الفلسطيني.
ارتبط العقار سواء أكان أرضاً أو بناءً بكينونة الشعب الفلسطيني، ويشكل الإقليم الترابي طيلة الوقت وعلى مر التاريخ، عنصرا من عناصر الدولة، فهل يعقل أن تشكل دولة في الجو والفضاء أو على سطح الماء. لننظر إلى الكيرن كاييمت الذي لا يجيز بيع العقار لغير اليهودي، ولننظر كيف خلقت القوانين الإسرائيلية وشرعت الواحد تلو الآخر وهي كثيرة لسلب عقاراتنا العربية ، فمن سيطرتنا على أكثر من تسعين بالمائة على العقار قبل عام 1948، غدونا الآن نملك في حدود الثلاثة بالمائة مع قيود كثيرة تشل الملكية. والحال لا يبعد كثيرا عما هو جار في القدس وفي الخليل وفي الضفة الغربية.
العقار مصدر صمود وانزراع للشعب الفلسطيني، بدونه تسهل قضية الهجرة في ظل صعوبات الحياة وتعقيداتها تحت ظل احتلال كولونيالي عنصري يعتبر الأطول تاريخا والأكثر غنى من أموال الشعب الفلسطيني. فإذا فقدنا العقار فماذا يبقى لكي نعمق ارتباطنا بهذه الأرض. لننظر على قرارت هدم المباني داخل فلسطين وفي القدس وفي مناطق سي، وكأن العقار الفلسطيني هدف أول للمخطط الإسرائيلي.
بعد أكثر من سبعة عقود ما زال الداخل الفلسطيني يقاتل ويناضل من أجل خطط تنظيمية، تأخذ صالح الشعب الفلسطيني بالحسبان، من أجل أن يزيد مساحات البلديات وقيام الإسكانات، بينما تتمتع ما تسمى بالكيبوتسات والموشافات بمزيد من الأرض وتسد المنافذ في وجه الفلسطيني. فهل بعد ذلك تأتي الكنيسة الكاثوليكية ولو بحسن نية لتبيع أو تتخلى عن أرضٍ فلسطينية. هذا أمر يجب أن يلغى ولا تقوم له قائمة فالمصلحة الوطنية تعلو ولا يعلى عليها، وعلى دمنته يصيح الديك!!!