قراءة نقدية : شعرية الألم في نص “البحث عن الروح “للشاعر محمد خالد النبالي
الناقدة خيرة مباركي / تونس
ما يتأتي الجمال من أعتى وأعنف مشاعر الألم والمعاناة ولعل جمال هذا النص يعادل درجة الشعور بالعجز والألم فتكون اللغة وسيلة الشاعر للتعبير والكشف عن أعماقه الخبيئة. يصقلها ويعيد ترتيبها فتتحول آلامه إلى خطاب جمالي ننفعل به ونستلذ بسحر لفظه. هو جمال متولّد من انفعال خاص يميز اللحظة الشعرية عنده، فهو لا يقول الشعر لأنه يجب أن يقول ولكن القصيدة تأتي طيّعة، مستسلمة لنداء الروح والمشاعر الصادقة، وهو صدق مغلف بمقدرة على تشكيل هذه المشاعر ورسمها بعبقرية وذوق وكذا برغبة في التجديد وتجاوز المألوف وكأننا بالشاعر محمد النبالي وهو يفصح عن هواجسه ومشاعره يقتنص اللحظة الإبداعية حتى تكون أكثر تأثيرا وجمالية في الخطاب ومن ثم أكثر شعرية وكأنه في ذلك يحارب الألم بالشعر في الشعر..
وما يشدنا في هذا النص هذا التواشج بين أقطاب مختلفة لخلق نفس إبداعي مميز يتلاءم وحالته النفسية وهو في هذا النسيج اللغوي المتشابك يشيد فضاءه الخاص. هو فضاء تصوري ذهني يجعله يعرج إلى عوالم خفية نائية يبتدعها في لحظة تبرم من الواقع. فيرتحل بعيدا إلى حيث تحلق الروح في عليائها فيهيئها للنزول في رحلة بحث عتية. ومنذ العتبة الأولى للنص ندرك طبيعة هذه الرحلة (البحث عن الروح) تذكرنا بنظرية الأندروجين عند أفلاطون وما جاء فيها من أسطورة البحث عن شطر الروح. ذلك أن زفس كبير الآلهة شطر الروح شطرين ونثرها أجزاء متناثرة وجعل كل جزء من هذه الأجزاء يبحث عن شطره الآخر وهنا في إطار عملية البحث تشعر هذه الأرواح بالحزن والكآبة وتسعى إلى اللقاء والانصهار ببعضها الذي سيسبب السعادة.. قد تكون رؤية مثالية للحب في الوجود وقد يكون توظيفها من ضروب التأثر بالرومانسية. لكن الصورة تختلف مع شاعرنا إذ يستعملها استعمالا جديدا. فلم تعد الأنثى – المرأة التي يبتغيها وإنما هي أنثى أخرى. لحظته الحزينة التي يجتثها من أنياب الليل الطويل ويردها بلحظة أخرى تتشكل عبر الأمر في معنى الإنشاء والطلب لما يمكن أن يتحقق في المستقبل. لتكون أنثى مفترض ليس لها وجودا فعليا إلا عبر الاحتمال والتمني. بهذا هي صورة منشودة لصورته الدّاكنة التي “رماها الليل في أطوائه” “غريب تائه” “لم تسمع الأسحار صوت بكائه”. صوت ألمه الذي ينبعث من سرّ التكوين وملحمة الخلق الأولى. على هذا ينبني النص على جملة من الثنائيات رغم وجودها الباهت في النسيج النصي. ندركها بعد تمعن وعمق رؤيا. لعلها شعرية الألم في الخطاب شكل بموجبها الشاعر عالمه التخييلي فيستعير عوالم قصية ينفذ من خلالها إلى عالمه الباطن فيعبر عن مأساته في الوجود.. وأولها التسليم بحتمية الفناء والموت يجعل النص قائما على هندسة متقنة يقيمها بما يتلاءم مع عالم روحي يعرج إليه بلغته ووجدانه مما يجعل النص مساحة شاسعة رغم قصره تجتمع فيه تيارات فنية متعددة الصوفي والرومانسي والمثالي.. قد تكون متقاربة في منبعها لكن الشاعر جعلها خاصة به ضمن رؤية ذاتية هي كونه الشعري الذي أقامه وشيده..
خيرة مباركي – تونس
…………………
(البحث عن الروح)
يا مَنْ رمَاهَا الليلُ في أطوائِهِ
دَمْعــــــا مُفَزَّعَةً على نكْبائِهِ
إِنْ تنظُري لِلحُبِّ إني هــــا هُنا
لَهْفِي عَليكِ، على الغريبِ التَّائِه
يا رحلتي إني فَزِعْتُ مُولَّهــــا
لَمْ تسْمَعِ الأسحارُ صَوْتَ بكائِهِ
حَزَنا عليكِ وأنتِ سرُّ حكايتي
مَنْ ذا يخُبِّرُنـــــي بقصَّةِ دَائِهِ
ترْتاحُ قافلتي وأُسرِعُ ذاهبًا
بحثًــــا أرُومُ حقيقةً بسمائِهِ
يا مَنْ برَاهَا قبلَ مَوْلِدِ شاخِصٍ
لِلْفُلْكِ مُنتظرًا جـــــوابَ ندَائِهِ
كُونِي بأصلِ الوقتِ ضِحْكًا لاهيًا
كُونِي كلحظةِ ناظِـــــــــرٍ لبَلائِهِ
كُونِي كمـــا شئتِ فأنتِ غَريبةٌ
والجِسْمُ مِنكِ وأنتِ مِنْ أسمائِهِ
سنظلُّ في التسآلِ نقتُلُ عُمْرَنا
وتغِيبُ هذِي الرُّوحُ عِنْدَ فَنَائِهِ
فَعَلامَ أسألُ ، فالسُّؤالُ مُحَرَّمٌ
وأنا بأرضِ الناسِ بعْضُ بقَائِهِ
فإِذا أرادَ فِراقَنَا، فنهايــــــــةٌ
والعلمُ حَيَّرَنا ، فِعِشْ بغَبَائِهِ
*****