بالحبر الأبيض.. سيرةٌ صحفيةٌ ( ١٣)
علي جبار عطية | رئيس تحرير جريدة (أوروك) العراقية
العوّدةُ بخُفّي أنينٍ !!
(إنَّ الظلام لا يمكن أن يطرد الظلام، الضوء فقط يستطيع أن يفعل ذلك، الكراهية لا يمكن أن تطرد الكراهية، الحب فقط يمكن أن يفعل ذلك).. قائل هذا الكلام هو القس والناشط (مارتن لوثر كنغ) (١٩٢٩ م ـ ١٩٦٨م) الذي كان يعتمد ستراتيجية اللاعنف متأثراً بغاندي. وهو أصغر من حصل على جائزة نوبل للسلام.
مناسبة هذا الإستهلال أنّه برزت بعد سقوط الدكتاتور مساجلاتٌ إعلاميةٌ ، ومهاتراتٌ وصلت إلى درجة التجريح، والطعن بالوطنية، ونحو ذلك، بشأن تعاطي الأُدباء، والفنانين، والإعلاميين مع السلطة ممن اضطرتهم الظروف إلى العمل في مؤسسات الدولة، ولم تسنح لهم الظروف بالهجرة، فصار هناك تصنيفٌ لما يسمى بـ(أدباء الداخل، وأدباء الخارج).
أكمل ما بدأت به في الحلقة السابقة بشأن الإجتماع الذي أداره الدكتور جلال الماشطة في مقرّ جريدة ( النهضة) في منطقة المسبح ببغداد ؛ لتّتضح الصورة أكثر، وتظهر طبيعة الخلاف.
بدأ الدكتور جلال الماشطة حديثه بالقول: نحاول اصدار صحيفة يوميةٍ بـ(٢٤) صفحة، نبدأ بثماني صفحات، ثم يكون عدد الصفحات اثنتي عشرة صفحة، ثمَّ نصل إلى أربعٍ وعشرين صفحة.
وبيَّن أنه يريد أن تتفوّق جريدة (النهضة) على جريدة (الزمان) اللندنية بزيادة الخبر المحلي، ثم عرض التبويب الذي وضعه للصفحات، وهو يبدأ بـ(الصفحة الأولى)، وتختصّ بالأخبار المحلّيّة، ويجب أن تكون فيها قصةٌ صحفيةٌ واحدةٌ. أما الصفحة الثانية فتخصّص لـ(الأخبار العربية والدولية)، وتكون الصفحة الثالثة صفحة (رأي) تقسم إلى أربعة أقسام: قسم الكاريكاتير الذي يرسمه الفنان مؤيد نعمة، وقسم للإفتتاحية، وقسم لمقالين أحدهما من خارج الجريدة، والقسم الرابع فقرة (منبر حر).
ومضى يصنّف الصفحات السبعة الأخرى، وهي صفحة (المحلّيات)، وصفحة(التحقيقات)، وتتقاسم صفحتا(الأدب والثقافة)، و(الإقتصاديات) الظهور مناصفةً في كل أسبوع ثلاثة أيّام، وصفحة للـ(النشاط الرياضي) يخصص أسفلها لمادة عنوانها (نحفر في الذاكرة) فيها شهادات، ووثائق عما حصل في العهد الماضي، لأن كل ما يكتب الآن هو توصيف ، ونحن نريد توثيقاً، وأخيراً (الصفحة الأخيرة) المنوّعة. ثمَّ بيّن وجهة نظره في الصحافة كأكاديمي، ومهني فقال: إن الصحافة سابقاً كانت صحافة تبليغ رأي، والآن هي صحافة إيصال رأي، والرأي الآخر، وتكون أداةً فاعلةً للرقابة على السلطة.
حين وصل إلى هذه النقطة، تذكّرتُ أنَّ مسرحيةً إنتقاديةً لغوغول شاهدها ملك روسيا (قيصر نيقولا)، فقال: (لقد نال كلّ موظف من النقد ما يستحقه، حتى أنا) ، وأمر أن تصرف له مكافأة دون إخباره أنَّها من القيصر؛ لئلا يكفّ عن نقد الحكومة!
أضاف الماشطة : إنَّ حقل (المنبر الحرّ) هو القناة التي يعبّر بها الناس عن آرائهم، والمادة هنا تحتاج إلى تحرير؛ فالرسالة التي تملأ عشرين صفحة يمكن أن يكون فيها سطران مهمان. وأوضح : قد يكون رأي القارئ أهم من آراء كل كتاب الجريدة وسيتحول المنبر الحر فيما بعد إلى صفحة كاملة.
ثم فصّل أكثر فقال: نحن نريد توثيقاً لما حصل ؛ مَنْ أصدر الأمر بإطلاق النار؟، نريد شهاداتٍ مصدرها الأول الناس، والمصدر الثاني لجان حقوق الإنسان.
أضاف:إنَّ أهمية ذلك هو للناس أولاً ؛ لكي نحفر في الذاكرة، فلا ينسى الناس ما حصل، ومن جهةٍ ثانيةٍ، هناك مسألة العقاب، والثواب، والمسألة ليست انتقاميةً، وإنّما هي عملية تنظيفٍ، وجرفٌ للماضي.. ثم ضرب مثلاً بقصة من القرن الماضي فقال: إنّ رئيس الاتحاد السوفيتي (خروشوف) حين تلا جرائم ستالين صُعقَ الشيوعيّون، وأنا أتوقّع أن يصُعقَ البعثيون.
كان الجوّ العام يوحي بوجود تشكيك بقدراتنا، وبمعالجاتنا التحريرية، نحن الذين عملنا تحت سطوة الإعلام المركزي الموجَّه. كنتُ أدوّن ما يقوله الماشطة، كما يفعل الكاتب المقرّر في الندوات، أو كما يفعل الكاتب في المحكمة، وقد لاحظ ذلك الماشطة بعينيه اللتين تشبهان عيني ذئبٍ، إلا أنَّ ذلك لم يشفع لي في أن أحظى برضاه بعد الإجتماع بشأن الصياغة الخبرية، ومن الواضح أنّه عزّز من إنطباعه المأخوذ عمّن عمل في صحف النظام السابق أنهم مقيّدون بصياغات تقليدية ذات توجّهٍ واحدٍ ، وهم قد طبعوا على الاعتناء باللفظ، والديباجة أكثر من عنايتهم بالمعاني!
أقول لكم بحقٍ: إنَّ هذه الملاحظة صحيحةٌ بنسبةٍ كبيرةٍ؛ مع ملاحظة أنَّه كان معنا في الحاضرين من عمل في صحف النظام السابق ، لكنَّه متجاوز لكلّ الأطر التقليديّة مثل الصحفي المحترف نصير النهر الذي كان بارعاً جدّاً في الصياغة الخبرية، وصناعة التقارير.فضلاً عن وجود ممّن كان خارج المؤسسة الرسميّة كالشاعر صادق الجلاد، والشاعر عبد الرحمن طهمازي، والشاعر أحمد الشيخ علي، وغيرهم. نبَّه الماشطة على كلّ من يحرّر الأخبار ألّا يعطي رأيه في الحدث، وبدت ملاحظته كمن يوجّه نصائح إلى تلاميذ!
كانت بيننا الناقدة نازك الأعرجي ، ـ وهذا من حسن الحظ ـ التي عرف عنها صولاتها وجولاتها في الدفاع عن أدب المرأة، وتجنيسه وقد رفضت في كتابها “صوت الأنثى” ـ الذي ظهر سنة ١٩٩٧ م استخدام مصطلح الكتابة الأنثوية، لأنَّ الأنوثة كمفهوم تعني لها ما تقوم به الأنثى، وما تتصف به وتنضبط إليه فلفظ الأنثى “يستدعي على الفور وظيفتها الجنسية، وذلك لفرط ما استخدم اللفظ لوصف الضعف والرقة والاستسلام والسلبية”.
الأعرجي في تناولها لبعض أعمال نازك الملائكة، ولطفية الدليمي، و سهيلة داود سلمان، ومي مظفر، وسميرة المانع، وعالية ممدوح ، وبثينة الناصري ، وديزي الأمير، تتوصل ـ كما ترى الكاتبة ميسلون هادي في مقالٍ بشأن الكتاب المذكور في (موقع وطن الدبور بتاريخ ٢٠٠٩/٣/٥ م) إلى أن (فضاء الحرية) هو ما يعوز فضاء القصة العراقية التي تكتبها الكاتبات بشكل خاص, وأن اقتران (الحرية) لدينا بـ(العيب) قد أثر عميقاً على مضامين القصة، وبناءاتها، وشخوصها، ولغتها.
كذلك ترى الكاتبة أن (نازك الأعرجي في كتابها (صوت الأنثى) كانت عنيفةً في رد فعلها ضد الكاتبات اللواتي (احتقرن) أنوثتهن و اخترن الانضمام إلى صف الرجل / المجتمع طلباً للحماية و حباً بالسلامة وهي كناقدة, لا تريد مهادنة مع الأفكار و المواصفات و الأعراف الاجتماعية السائدة, بل تريد ان يكون للمرأة التي تنبعث لتوها, والتي خيم عليها الصمت طويلاً، صوتٌ أنثويٌّ لا يكفي للإفصاح عن جنسها، وانبعاثها فحسب، ولكن يكفي لإزعاج سلام الجنس الأخر، وإقلاق راحته، والحد من هيمنته، وغروره، واتكائه على وسادةٍ من ريش المُسّلمات التاريخية ، اولاجتماعية المعروفة).
جانبياً حدثت مشادةٌ كلاميةٌ خفيفةٌ ـ على طريقة المثقفين ـ بين الكاتبة نازك الأعرجي، والناقد حسب الله يحيى، وكلاهما ناقدٌ محترفٌ ويعرفان بعضهما جيداً وسببها؛ أنَّ الأعرجي التي كانت مشرفةً على القسم الثقافي لجريدة (الجمهورية) منتصف الثمانينيات شكّكت بمواقف بعضٍ ممّن عمل في المؤسسات الإعلامية، أو صحف النظام زمن الدكتاتورية ، وتساءلتْ : ماذا قدّم حسب الله يحيى من تنازلاتٍ ليشترك في المسابقات الأدبية ؟! (يبدو أنَّها تقصد عملاً سردياً واحداً كتبه يحيى بعد حرب تحرير الكويت عام ١٩٩١م) ، فردّ عليها يحيى بهدوءٍ : إنَّه لم يشترك في أيّة مسابقةٍ أدبية!
وبعد الإجتماع عبّر عن ضيقه من أسلوبها، وقال عنها:إنَّها قلمٌ جيّدٌ لكنَّ شخصيتها صِداميةٌ (بكسر الصا) طبعاً !
أخبرني الشاعر أحمد الشيخ علي أنه ترك العمل بجريدة الصباح بعد تسلّمه راتبه وكان مقداره مئتي دولار، مع أنهم وعدوه برفعه ليكون ٣٥٠ دولاراً ؛ لأنَّ هيئة التحرير رفضت له مقالتين انتقد فيهما الأمريكان!
أبدى الماشطة إعجابه بأحمد الشيخ علي؛ لأنه جاء بموادّه على قرصٍ مدمجٍ ، وهو يحبّذ أن يجيد الصحفي اللغة الإنكليزية، ويتعامل مع الحاسوب في حين مازلنا نتعامل بالقلم، والورقة.
وبرغم أنّ الماشطة وعد بإعطاء مكافآتٍ مجزيةٍ على من يأتي له بالخبر الجيّد، إلا أننا لم نتّفق معه على أيّ صيغة عملٍ، لأنّه يريد ممن يعمل معه أن يتفرغ تفرّغاً تاماً، وهذا غير متيسر لنا حالياً، فالفوضى مازالت كبيرةً، ومن الصعب المجازفة بترك عملٍ مضمونٍ نسبياً بأجرٍ معقولٍ بآخر ذي أجرٍ مغرٍ لكنَّه محفوفٌ بالمخاطر، وغير معروف النتائج.
نفّذ الماشطة الكثير من خططه عملياً، فأعطى إلى الخبر المحلي الأولويّة، وصار للصوت الآخر، ونبض الشارع المساحة الأوسع برغم الشعور القوي بالإنتماء إلى علية القوم عند الدخول إلى مبنى الجريدة !
صار الدكتور مالك المطلبي مسؤولاً عن القسم الثقافي، فكانت الصفحة عامرةً بالمواد الرصينة لأقلامٍ مهمّةٍ، وكان الكاريكاتير الذي يرسمه الفنّان مؤيد نعمة (١٩٥١ م ـ ٢٠٠٥ م)، وهو مقيم في عمان، ويرسله عن طريق زوجته الصحفية مها البياتي، أمضى من كلّ أسلحة الإرهاب، فكانت رسوماته الكاريكاتيرية تنم عن وعي عالٍ بما جرى، ويجري، وما سيجري !
حدّثني أحد محرري جريدة (النهضة) يوم السبت ٢٠٠٣/١٢/٢٧ م حين التقيته مصادفةً في طريقي إلى جريدة(التآخي)، قال: كنتُ على وشك السفر إلى الأردن حين أعلن نبأ إلقاء القبض على صدام في ٢٠٠٣/١٢/١٣ م فأجّلت سفري، وهرعت إلى الجريدة، وأبدلت أربع صفحات وجعلت الصفحة الأولى ملونةً، وتحمل صورة صدام، وهو ملتحٍ وفوقها عبارة أعددتها منذ عشر سنوات ، وهي (الذليل) وفي داخل العدد أعدنا نشر كاريكاتير لمؤيد نعمة يظهر صدام مع الفئران التي تهتف: (بالروح بالدم نفديك يا صدام)!، كنا قد نشرناه في شهر حزيران الماضي أي قبل نحو ستة أشهر من إلقاء القبض عليه ، وكأنَّ الرسام قد تنبأ بهذه النهاية !
يتابع: أخذتُ معي نسخاً من هذا العدد، وسافرت إلى الأردن، وحين فتّشني شرطيٌّ أردنيٌّ؛ صعق لما رأى الجريدة، فتناقشت معه، قلت له: لقد كنا نعدّه قدّيسا، ولكنَّ أفعاله جعلتنا ننفر منه حتى انتهى هذه النهاية.
قالت لي القاصة الدكتورة بلقيس الدوسكي، وهي تدريسيةٌ ، وفنانةٌ ، وكاتبةٌ ، وصحفيةٌ كانت تعمل معنا في القسم الثقافي لجريدة (العراق) ( أطروحة الدكتوراه لها كانت في الأدب والنقد المسرحي الكردي المعاصر) قالت لي ضحى يوم الأربعاء ٢٠٠٤/١/١٤ :(إنَّ قراءتي للملاحم والأساطير في أطروحتي للماجستير في الفنون المسرحية الكردية أثبتت لي أن الأبطال التراجيديين غالباً ما ينتهون نهاياتٍ تافهةً !).
إذن لم نفلت من قبضة ( التآخي). فعدنا إليها بخُفيّ أنينٍ ! أبدى الناقد حسب الله يحيى إستياءه من تصرّفات بعض العاملين في الجريدة ممن تُرفض موادهم لرداءتها ، فيشتكون عند رئيس التحرير بدعوى أنّ يحيى يحاربهم، ولوَّح بأنه قد يغادر الجريدة ؛ لأنَّه يشعر أنه محاصر!
قال (صادق الجلاد) أنه سيتعامل مع جريدة (النهضة) مؤقّتاً حتى يكتمل كادرهم، فيتركهم.
بعد سنتين، توقّفت جريدة النهضة وقيل إن السبب عدم نجاح التجمّع الذي تمثله، وهو تجمع الدكتور عدنان الباجه جي في الإنتخابات البرلمانية، وانتقل رئيس التحرير إلى مهمّة جديدة هي رئاسة شبكة الإعلام العراقي. إذن لم أستفد من فرصة العمل مع جلال الماشطة، ولم تنجح محاولتي في النهوض بواقعي الصحفي بـ( النهضة)، متذكّراً هذه الحكاية: يروي أحد علماء القرن الثالث الهجري، وهو البسطامي (أبو يزيد طيفور بن عيسى بن شروسان البِسطامِي) ( ٨٠٤ م ـ ٨٧٤ م) ، هذه الحادثة التي جرت معه، فيقول:
(خرجتُ إلى الحج، فاستقبلني رجلٌ في بعض المتاهات.
فقال: أبا يزيد إلى أين؟
فقلت : إلى الحجّ؟
فقال :كم معك من الدراهم ؟
قلت: معي مئتا درهم !
فقال : فطفْ حولي سبع مراتٍ، وناولني المئتي درهم، فإنَّ لي عيالاً !
فطفتُ حوله، وناولته المئتي درهم !)
وبالرغم من أن بيني وبين حكاية البسطامي أكثر من أحد عشر قرناً إلا أن القضية متشابهة، فمازلت أبحث عمّن أطوفُ حوله، أو يطوفُ حولي !
(السيرة مستمرةٌ ، شكراً لمن صبر معي.. يتبع)
شروح صور
١. جلال الماشطة
٢ مؤيد نعمة
٣. بلقيس الدوسكي
٤. كاتب السيرة بين الفنان خالد جبر ، و المصمم باسل جلال