قراءة في “مشاهد عابرة لرجل وحيد ” لأحمد أبو خنيجر

مرفت يس | ناقدة من مصر

ذات وحيدة تتأمل وترصد الواقع

  تحمل المجموعة عنوانآ مراوغآ يكشف  كيف أن المشاهد العابرة لاتمر مرورآ عاديآ  مع ذات واعية تستوقفها لتدقق فى تفاصيلها وتتعامل معها بوعى شديد بمساحة من التأمل الذى نتج عن وحدة هذه الذات التى تأخذنا فى رحلة بعين بصيرة واعية تتأمل وترصد مجموعة من المواقف والمشاهد التى تمر بها ،  فوحدة هذه الذات هى مفتاح القراءة  لهذه المجموعة حيث نرى  ذاتآ  وحيدة تتأمل وترصد بعين بصيرة قد تخفى أكثر مماتفصح فى بعض الاحيان تاركة لنا إشارات ليكمل القارىء الصورة ،ثم تأخذنا هذه الذات الوحيدة فى رحلة عبر قسمى المجموعة 

القسم الأول:  “مشاهد عابرة  ” ويحتوى على 19 تسعة عشر قصة بعناوين كاشفة عبارة عن كلمة واحدة تعبر عن المدلول الرئيسى للقصة حتى انه كرر بعض العناوين كما فى نقاب 2 والمقهى 2و3 

وهى  رقص، عجوز ، اصطباحة ، صوت ، نقاب ، حناء ، غروب ، حلم ، فى المقهى ،كلب ، نقاب 2 ،سلمى ، فى المقهى 2 ، دعاء ، عاشق ، عمود إنارة ، جدار ، فى المقهى 3 ، نور 

والقسم الثانى: “رجل وحيد ” ويحتوى على 8 ثمانية قصص وهى  الأبواب السرية المتشابهة ، سيدة الأشجار الجنوبية ، رجل الحمام ، فى انتظار الريح ، غذاء مع الجد، رجل وحيد يخشى الأحلام ، يموت كثيرآ ، مرآة الصباح.

القــسم الأول:

عبارة عن مجموعة من المشاهد العابرة التى قد تمر بنا يوميآ فى الاماكن التى نقصدها أو تأتينا فى أماكننا وتمر بنا ونحن نشاهد ونترقب دون أن تستوقفنا ،لكن الكاتب هنا لم يسمح لتلك اللقطات أن تمر مرور الكرام دون أن يستوقفها ويرسم لنا بها مشاهد قصصية غاية فى الروعة بكل دقائقها وتفاصيلها ويغوص فيها داخل شخوصة كاشفآ عما يختلج ذواتهم بحرفية مدهشة إنه السهل الممتنع الأسلوب البسيط فى الحكى والوصف للمشهد بحرفية شديدة  لعين بصيرة ترى مالا يراه الأخرون 

تبدآ المجموعة بقصة “رقص” فى مشهد ساحر  بين الصبى والسائحة التى لايفهم ما تقول لكن لغة  الجسد وحدها هنا هى التى تصدرت المشهد عندما فهم الصبى اشارتها للطبلة فبدآ ينقر عليها وبدأت تتتراقص بوله صوفى شديد للرقص وحدها  على طرقات الطبلة تك تك دوم تك تك دوم ، ابوخنيجر  وصف لنا المشهد وكأننا نراه ونستمع نحن أيضآ الى إيقاع الطبلة تك تك دوم ، فينتابنا نفس الاحساس والوله الذى أصاب السائحة فبدأت تتراقص وتتراقص معها قلوبنا .

تلك المشاهد التى رصدها الكاتب تغوص فى اعماق ابطال قصصه ونفسايتهم ما بين الوحدة والحنين والألم  واللامبالاة والغربة فنرى فى قصة عجوز مثلا العجوز الذى يدخل القهوة ليأخذ اصطباحته فيجره النادل جرآ ليجلس فى الداخل فى الركن الحار ونظراته وكأنه يستجدى من الجالسين المساعدة ولكن لا أحد يبالى الكل يراقب فى صمت ، فينتهى المشهد على مغادرة العجوز للمقهى دون أن يجلس وعكازه المعدنى  يصدر رنينآ كأنه ينبه تلك الأرواح اللامبالية. 

وفى قصة  “نقاب”  يصور الكاتب وجوه زميلاته المنتقبات التى دخل المكتب فجأة وهن رافعين لنقاباتهن بأن وجوههن تتطابق مع وجه عمته لحظة موتها فى إشارة كاشفة لموت تلك الوجوه التى تختفى منها علامات الحياة.

وغيرها من المشاهد التى عبرت من أمام ذات وحيدة  تجلس على مقهى أو فى العمل أو فى وسائل النقل فلم تجعلها تعبر بسلام بل استوقفتها وغاصت فى أعماقها لتكشف لنا عنها.

القسم الثانى ” رجل وحيد “:

بدأ السرد يتحول تدريجيآ الى الحكى حيث ينتقل بنا إلى القسم الثانى بعنوان  (رجل وحيد) لنتعرف على تلك الذات الوحيدة التى كانت تشاهد وتتأمل وترصد تلك المشاهد فى القسم الأول من المجموعة لتكشف عن نفسها من خلال قصص المجموعة الثمانية التى ركن  السرد فيها إلى الحكى بوصفه لونآ برعت فيه  الذات الكاتبة بالاضافة الى استلهام الأسطورة والتناص معها لما فيها من دلالات كذلك الحلم الذى هو الركيزة الأساسية التى تعرفنا من خلالها على هذا الرجل الوحيد 

 أولا – الحكى:

 وهنا نشاهد نوعآ من التكشف ، تكشف لنا الذات عن نفسها لنتعرف عليها  بوضوح أكثر  من خلال وحدتها  كما فى قصة  ” الابواب السرية المتشابهة ”  وتماس مع الفكر الصوفى فى حوار بين الشيخ وتلميذه الذى كان مولعآ بضرب الأمثلة والأحاجى فنرى  الكثير من دلالات الصوفية  منها المقام والارتقاء ورحلة البحث عن الذات والارتقاء بالروح  ، ودلالة الرقم سبعة وماله من دلالات تتعلق بالجانب الروحي للأشياء ، فيرمز لرحلة البحث للوصول الى ذاته التائهة ، بمدينة لها سبع طرق متشابهة ،  تنتهى بسبع أبواب متطابقة ، وعلى الذات الصبر ، وطول البال،  وعدم التعجل، والوضوح والدقة فى اختيار الطريق الصحيح للوصول  إلى المدينة،  تلك المدينة هى ذاته وأبوابها الملغزة هى رحلة الوصول إلى هذه  الذات 

تلك الأبواب يصفها  الكاتب  بأنها  ” أبواب تتكشف عن الحسد والضغينة والرغبة الجارحة فى الانتقام وأبواب تسيطر عليها الغريزة والقسوة ، ويبقى باب واحد الذى يملك كل تلك الخصال الرذيلة إلا أنه يصفيها ويضعها فى سياقها المحدد ، بعيدآ عن الفجاجة والمظهرية ، الكل متناغم فى وحدة تكشف عن جوهر المدينة ، فى تجلياتها المتعددة: فجورها وتقواها، صدقها وكذبها، شجاعتها وتخاذلها ، لهوها وتأملها، أحزانها وقوة أفراحها، شياطينها وملائكتها، أمراضها وقوة يقينها، بنات حورها وأولادها المخلدون ” صـــ54

ثانيآ – استلهام الأسطورة:

فى كثير من القصص  نجد القصص تتناص مع الأسطورة كما  فى قصة ” رجل الحمام”  يتناص مع أسطورة أوديب  وسؤال الرجل العجوز هو نفسه  سؤال  أبى الهول فى الأسطورة ويتوقف على إجابته دخول المدينة.

   الإنسان هو  الإجابة المنطقية للسؤال حيث الإنسان فى صباه كالحمام يطير محلقآ ويحط، رحلة بين الصعود والهبوط وعلاقتها بالزمن وبمرور الأيام على رجل وحيد  نجده  يختم القصة بإجابة الشق الأخير من السؤال 

” انتبهت بشكل فاضح للعكاز الذي بيدى ، والذى أميل عليه الآن ، وأنا أسجل هذه الكلمات “صــــ68. 

 يستلهم الكاتب أيضآ  الأسطورة فى قصة ” سيدة الأشجار الجنوبية “حيث  الالهة حتحورإالهة الحب الالهة المرحة الطروب التى تمثل كل ماهو جميل وكل مميزات السيدة كزوجة أو أم أو ابنة وهى الربة الحامية للمغنيين والراقصين وكل مايدخل السرور على النفس من أى نوع كان ، كذلك هى الربة الحامية للجميلات والفن والأعمال الفنية، نجد الكاتب يستلهمها هنا فى قصة “سيدة الأشجار الجنوبية” حيث البطل فى القصة خزافآ يشكل التماثيل ويحلم بأنه يشكل تماثيله دونما روح كما يقول “وجدت نفسى فى قلب الصحراء، أجلس على دولاب الفخار أشكل تماثيل غريبة الملامح، أفعل ذلك بألية ، دونما روح ، دونما حس ، كأنما فقط أصنعها كى أمرر الوقت الطويل والباهظ فى قلب الصحراء ، كان نوعآ من العقاب ، ليس له ملامح بالفن “صـ 57

وهنا يكمل الكاتب حلمة بأن يسمع حتحور تحثه ضاحكة على نحت مابداخلة وهنا لحظة تأمل الذات بعد مرورها بسلسلة من التحولات لاكتشاف الجمال والبحث عنه والتعرى من كل القيود التى تكبل العقل  ليطلق له العنان ليبدع فى نحت تمثاله الذى أوحت اليه به حتحور سيدة النشوة ، فهى حامية لنشوته حينما نحت محبوته  ورأها بشكل أخر فى حلمه. يقول ” كطلعة النور كنت ، وشهية كماء عذب فى أشد أيام الحرارة ، نحوى تنظرين ، عيونك مشجعة ، وأنا أتقدم بارتجافى وقلقى الذى يفقدنى صوابى فيما أرى وأحس ، ممدت يدى بادئآ من عند أصابع القدمين ومارآ بكل التفاصيل الدقيقة ……حين انتهيت ورأيت ماشكلت يدى ، وصرت تشبهينها أو هى التى تشبهك ، ألقيت جسدى على العشب منهكآ “صـ60

ثالثآ – الاستناد إلى الحلم: 

القصص استندت أيضآ  الى الحلم الذى يعد مفتاح الرؤية الابداعية عند الكاتب وجوهر عملية الابداع عنده  يحضرنى هنا قول الشاعر أنسى الحاج ” أنا أؤمن بالحلم ، من لايحلم لا يفعل، الحلم يسبق الفعل، كما يسبق الغيم المطر …..الحلم جوهر غير أنه موجود ….والحلم هو العقل والروح والخيال .إنه الفردوس الممكن ….الحلم أولا، الحلم فوق الجميع ، الحلم الذى هو محرض الواقع وروحة وعقله وعصبه ، الحلم الذى هو المستقبل ، الحلم الذى هو النبى والشاعر .”

فالبطل فى قصة سيدة الأشجار يحلم بحتحور الهة الجمال  المحرضة على فعل الابداع والجمال والوصول إلى تلك النشوة المبتغاة.

كذلك  تترتكز قصة “رجل وحيد يخشى الأحلام ” على الحلم الذى يباغت البطل فى القصة الحلم  الذى ينير متاهات ومتاعب الروح ،ويرتقى ويصعد  بها إلى فضاء أرحب وأكثر أتساعآ لذلك نجده يصف النوم بأن له ملاكآ يطير به إلى أرض أحلامه  وكأنه يطير به إلى الجنة حيث النبع والجداول والأنهار والزهور والفراشات والغناء الذى ينسكب داخل روحه ليطهرها ذلك الصعود يتناص بإشارة خفية إلى رحلة الصعود اللى الجنة فى قصة الاسراء والمعراج حينما تحاول الذات الوصول إلى مزيد من الحقائق لتنتهى الرحلة الى حد معين  من المعرفة  يقول “واقفة بجوار النبع لاهية تغنى، غير منتبهة لوجودى الضائع فى البهاء الذى ينبعث منها ويحيط بها، أكانت تداعب فراشة، أم تطير وردآ فى سماء الحلم ليغنى من حولى كوجقة يردد خلفها ، لم أعد قادرآ على البقاء مكانى ، وحين حاولت التقدم نحوها ، رفعت عينيها محذرة : إن اقتربت احترقت. وكأنما صوتها يقطر غواية يدفعنى نحوها، وقبل أن أنقل قدمى، ردنى ملاك النوم لسرير وحدتى  أحاور الخاطرة الأخير التى ما أكملتها ” صـ84

كذلك فى قصة  “يموت كثيرآ ” العنوان الكاشف على مضمون القصة البطل الذى يحلم بأحد أصدقاءة الذى يشبهه فى ملامحه كثيرآ يسقط فيموت فى حلمه ويتكرر الحلم كثيرآ حتى يكتشف أنه هو من يموت فى فى أحلامه كثيرآ 

الحلم أيضآ فى قصة  “مرآة الصباح  ” وكأنها تتمة لقصة   “يموت كثيرآ   “نفس الحلم بالموت يهاجم البطل ويصفة بأنه مصر على الاكتمال الذى هو بالطبع النهاية ، ليختتم الكاتب مجموعته بتلك النهاية لرجل وحيد ترواده أحلامه دائمآ . وهنا اشترك الحلم مع الأسطورة فى كونهما عملية تخييلية تتخطى حدود الواقع الممكن ، إلى أفق أكثر رحابة فى بنية الفضاء المكاني والزمانى لعملية القص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى